الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الحوادث في السنة الرابعة من النبوة

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستر النبوة ويدعو إلى الإسلام سرا ، وكان أبو بكر [رضي الله عنه] يدعو أيضا من يثق به من قومه ممن يغشاه ، ويجلس إليه ، فلما مضت من النبوة ثلاث سنيننزل قوله عز وجل: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 15: 94 فأظهر الدعوة .

أخبرنا محمد بن أبي طاهر بإسناده إلى محمد بن سعد : أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا حارثة بن أبي عمران ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه قال:

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه من عند الله ، وأن ينادي الناس بأمره ، وأن يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى ، وكان يدعو من أول ما أنزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفيا ، إلى أن أمر بظهور الدعاء .

قال محمد بن عمر: وحدثني معمر ، عن الزهري ، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام سرا وجهرا ، فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس ، حتى كثر من آمن به ، وكفار قريش غير مكترثين لما يقول ، فكان إذا مر عليهم في مجالسهم يقولون: إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء . فكان كذلك حتى عاب آلهتهم [ ص: 365 ] التي يعبدونها دون الله ، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر ، فشنفوا لرسول الله عند ذلك وعادوه .

قال محمد بن عمر: وحدثني ابن موهب عن يعقوب بن عتبة قال:

لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام ومن معه فشا أمرهم بمكة ، ودعا بعضهم بعضا كان أبو بكر يدعو ناحية سرا ، وكان سعيد بن زيد ، مثل ذلك ، وكان عثمان مثل ذلك ، وكان عمر بن الخطاب يدعو علانية ، وحمزة بن عبد المطلب وأبو عبيدة بن الجراح ، فغضبت قريش ، وظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحسد والبغي .

قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

كنت بين شر جارين: بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط ، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي ، فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا بني عبد مناف ، أي جوار هذا . ثم يلقيه بالطريق . أو كما قالت .

أخبرنا عبد الحق بإسناد له ، عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بسوق ذي المجاز وأنا في بياعة لي ، فمر وعليه حلة حمراء ، وهو ينادي بأعلى صوته: "يا أيها الناس ، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" ورجل يتبعه بالحجارة قد أدمى كعبيه وعرقوبيه ، وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه ، فإنه كذاب . قلت: من هذا؟ قالوا: غلام بني عبد المطلب . قلت: فمن [هذا] الذي يتبعه يرميه بالحجارة؟ قالوا: هذا عمه عبد العزى - وهو أبو لهب - فلما ظهر الإسلام ، وقدم المدينة أقبلنا في ركب من الربذة حتى نزلنا قريبا من المدينة ، ومعنا ظعينة لنا [قال:] فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم . فرددنا عليه ، فقال: من [ ص: 366 ] أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة . قال: ومعنا جمل أحمر . قال: تبيعوني جملكم؟ قلنا:

نعم . قال: بكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر . قال: فما استوضعنا شيئا ، وقال: قد أخذته ، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا قليلا فتلاومنا بيننا فقلنا:

أعطيتم جملكم من لا تعرفونه ، فقالت الظعينة: لا تتلاوموا ، فقد رأيت وجه رجل ما كان ليحقركم ، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه ، فلما كان العشاء أتانا رجل فقال: السلام عليكم ، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم ، فإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا . قال: فأكلنا حتى شبعنا ، واكتلنا حتى استوفينا ، فلما كان من الغد دخلنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: "يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول ابنك وأباك وأختك وأخاك وأدناك وأدناك"
.

وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا فقال: "يا صباحاه" فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا: ما لك؟ قال: أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ألا تصدقوني؟ قالوا: بلى . قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب: تبا لك ، ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله تعالى تبت يدا أبي لهب وتب 111: 1 إلى آخر السورة . وروى ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب [رضي الله عنهما] قال: لما أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذر عشيرتك الأقربين دعاني [رسول الله صلى الله عليه وسلم] فقال لي: "يا علي ، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا ، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمت حتى أتاني جبريل فقال: يا محمد ، إنك إن لا تفعل ما تؤمر به يعذبك الله فاصنع لهم صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل [ ص: 367 ] شاة ، واملأ لنا عسا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به . ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون ، فيهم أعمامه أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت له ، فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جرة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال: "خذوا باسم الله" فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة ، وما أرى إلا مواضع أيديهم وايم الله الذي نفس علي بيده ، إن كان الرجل [منهم] ليأكل ما قدمت لجميعهم . ثم قال: "اسق القوم" فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله ، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن [يكلمهم] بدره أبو لهب الكلام ، فقال: سحركم صاحبكم - فتفرق القوم ، ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "الغد يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما سمعت من القول فأعد لنا من الطعام مثل ما صنعت ، ثم اجمعهم لي" . ففعلت وجمعتهم فأكلوا وشربوا ، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني عبد المطلب ، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي" ؟ فأحجم القوم ، فقلت وأنا أحدثهم سنا: أنا يا نبي الله . فقام القوم يضحكون . وذكر ابن جرير : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب واستخفوا من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون فذاكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون ، حتى قاتلوهم ، فاقتتلوا فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين [بلحي جمل] فشجه فكان أول دم أهريق في الإسلام . [ ص: 368 ]

قال ابن إسحاق : ولما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام لم يردوا عليه كل الرد ، حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك نادوه واجتمعوا على خلافه ، ومنعه عمه أبو طالب فمضى إلى أبي طالب رجال من أشرافهم: كعتبة ، وشيبة ، وأبي جهل ، فقالوا:

يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه . فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه ، ثم شرى الأمر بينه وبينهم ، حتى تباعد الرجال وتضاغنوا ، فأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها ، وحض بعضهم بعضا عليه ، ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب ، إن لك نسبا وشرفا ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على شتم آبائنا وسفه أحلامنا ، وعيب آلهتنا حتى نكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين .

ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، ولا خذلانه ، إلا أنه قال له: يا بن أخي ، إن قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا ، فأبق [علي و] على نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق . فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله ومسلمه ، وأنه قد ضعف عن نصرته ، فقال:

"والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ، ما تركته" ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام ، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخي . فأقبل فقال: اذهب فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك [لشيء] أبدا
. [ ص: 369 ]

وقال السدي: بعثوا رجلا إلى أبي طالب فقال له: هؤلاء مشيخة قومك يستأذنون عليك . فقال: أدخلهم . فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا ، فأنصفنا من ابن أخيك ، ومره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه . فبعث إليه أبو طالب ، فلما جاء قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم ، وقد سألوك النصف أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك فقال: "يا عم ، أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها" ؟

قال: وإلى ما تدعوهم؟ قال: "أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم" فقال أبو جهل: ما هي وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها؟ قال:

"يقولون لا إله إلا الله" قال: فتفرقوا وقالوا سلنا غير هذه فقال: " [لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي] ما أسألكم غيرها" فغضبوا وقاموا [من عنده ، وقالوا:] لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا . ونزل قوله تعالى وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم
. قال ابن إسحاق : فلما عرفت قريش أن أبا طالب لا يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا طالب ، هذا عمارة بن الوليد أبهى فتى في قريش وأجمله ، فخذه فاتخذه ولدا ، وسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله فإنما رجل كرجل فقال: والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبدا . فقال مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا . فقال أبو طالب لمطعم: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك . قال: فجنت الحرب حينئذ وتنابذ القوم ووثب كل قبيلة على من فيها من [ ص: 370 ] المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع الله رسوله منهم لعمه أبي طالب ، وقام أبو طالب في بني هاشم وبني عبد المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه ، فاجتمعوا إليه ، وقاموا معه فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من الدفع عن رسول الله ، إلا ما كان من أبي لهب ، فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم وحدتهم عليه جعل يذكر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه فيهم ليسدد لهم رأيهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية