الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال مؤلف الكتاب : ولما خرج المسلمون إلى الحبشة ومنع الله تعالى نبيه عليه السلام بعمه أبي طالب ، ورأت قريش أن لا سبيل لهم عليه رموه بالسحر والكهانة والجنون ، وقالوا: شاعر ، ثم بالغوا في أذاه .

فمما فعلوه:

ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حضرت قريشا وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقالوا: ما رأينا مثل ما صرنا إليه من هذا الرجل ، قد سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا وعاب آلهتنا - وقيل: ديننا - وفرق جماعتنا وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مر طائفا بالبيت ، فلما مر غمزوه ببعض القول ، قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله ، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه [بمثلها] فعرفت ذلك في وجه رسول الله ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فوقف فقال:

"ألا تسمعون يا معاشر قريش ، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح" .

قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما بينهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ، وحتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما كان يجد من القول حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدا ، فو الله ما كنت جهولا .

فانصرف رسول الله حتى إذا كان من الغد اجتمعوا [في الحجر] وأنا معهم . [ ص: 379 ]

فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه ، فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما [كان] يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم ، فيقول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : "نعم أنا الذي أقول ذلك" فلقد رأيت رجلا منهم أخذ مجمع ردائه ، وقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله . ثم انصرفوا [عنه]
. أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال:

حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر بن أبي خيثم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس :

أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاهدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: لو قد رأينا محمدا قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله ، فأقبلت فاطمة تبكي حتى دخلت على أبيها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقالت: هؤلاء الملأ من قريش من قومك في الحجر قد تعاهدوا أن لو رأوك قاموا إليك يقتلونك ، فليس معهم رجل إلا قد عرف نصيبه من بدنك . فقال: "يا بنية أرني وضوءا" فتوضأ ، ثم دخل عليهم المسجد ، فلما رأوه قالوا: هو هذا ، هو هذا . فخفضوا أبصارهم وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه أبصارهم ، ولم يقم منهم رجل فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رءوسهم فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها . وقال: "شاهت الوجوه" فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا . قال أحمد: وحدثنا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - قال: أخبرنا الوليد بن مسلم قال: حدثني الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي قال: حدثني عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص:

أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 380 ]

قال: بينا رسول الله بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى به في عنقه ، فخنقه به خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم
40: 28 .

قال أحمد: وحدثنا وهب بن جرير قال: أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد ، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزور قريب منهم فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟ فقال عقبة بن أبي معيط: أنا . فأخذه فألقاه على ظهره فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم عليك بالملإ من قريش ، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة ، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة . اللهم عليك بأبي جهل بن هشام ، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط ، اللهم عليك بأبي بن خلف" - أو أمية بن خلف" .

فقال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا ، ثم سحبوا إلى القليب غير أبي - أو أمية - فإنه كان رجلا ضخما فتقطع .
أخرجه البخاري ومسلم . وانفرد بالذي قبله البخاري [رحمه الله] .

التالي السابق


الخدمات العلمية