الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما ) ( 92 ) .

قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ) : أن يقتل في موضع رفع اسم كان ، ولمؤمن خبره . ( إلا خطأ ) : استثناء ليس من الأول ؛ لأن الخطأ لا يدخل تحت التكليف ، والمعنى : لكن إن قتل خطأ فحكمه كذا . ( فتحرير رقبة ) : فتحرير مبتدأ ، والخبر محذوف ؛ أي : فعليه تحرير رقبة . ويجوز أن يكون خبرا والمبتدأ محذوف ؛ أي : فالواجب عليه تحرير ، والجملة خبر من . وقرئ " خطأ " بغير همز وفيه وجهان : أحدهما : أنه خفف الهمزة فقلبها ألفا فصار كالمقصور . والثاني : أنه حذفها حذفا ، فبقي مثل دام ، ومن قتل مؤمنا خطأ صفة مصدر محذوف ؛ أي : قتلا خطأ ، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ؛ أي : مخطئا ، وأصل دية ودية مثل عدة وزنة ، وهذا المصدر اسم للمؤدى به مثل الهبة في معنى الموهوب ، ولذلك قال : ( مسلمة إلى أهله ) : والفعل لا يسلم . ( إلا أن يصدقوا ) : قيل : هو استثناء منقطع ، وقيل : هو متصل والمعنى فعليه دية في كل حال ، إلا في حال التصدق عليه بها .

( فإن كان ) : أي المقتول ، و " من قوم " خبر كان . و : " لكم " صفة عدو . وقيل : يتعلق به ؛ لأن عدوا في معنى معاد ، وفعول يعمل عمل فاعل . فتحرير رقبة ؛ أي : فعلى القاتل . ( فصيام ) : أي : فعليه صيام ، ويجوز في غير القرآن النصب ، على تقدير فليصم [ ص: 292 ] شهرين . ( توبة ) : مفعول من أجله ، والتقدير : شرع ذلك لكم توبة منه . ولا يجوز أن يكون العامل فيه صوم إلا على تقدير حذف مضاف تقديره : لوقوع توبة ، أو لحصول توبة من الله ، وقيل : هو مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره : تاب عليكم توبة منه . ولا يجوز أن يكون في موضع الحال ؛ لأنك لو قلت : فعليه صيام شهرين تائبا من الله لم يجز ، فإن قدرت حذف مضاف جاز ؛ أي : صاحب توبة من الله . و ( من الله ) : صفة " توبة " ، ويجوز في غير القرآن توبة بالرفع ؛ أي : ذلك توبة .

قال تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) ( 93 ) .

قوله تعالى : ( ومن يقتل ) : من مبتدأ ، و " متعمدا " حال من ضمير القاتل " فجزاؤه " مبتدأ ، و " جهنم " خبره ، والجملة خبر من ، و ( خالدا ) : حال من محذوف تقديره : يجازها خالدا فيها ، فإن شئت جعلته من الضمير المرفوع ، وإن شئت من المنصوب . وقيل : التقدير : جازاه ؛ بدليل قوله : " وغضب الله عليه ولعنه " فعطف عليه الماضي ، فعلى هذا يكون " خالدا " حالا من المنصوب لا غير ، ولا يجوز أن يكون حالا من الهاء في " جزاؤه " لوجهين : أحدهما : أنه حال من المضاف إليه . والثاني : أنه فصل بين صاحب الحال والحال بخبر المبتدأ .

قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ) ( 94 ) .

قوله تعالى : ( فتبينوا ) : يقرأ بالباء والياء والنون من التبيين ، وبالثاء والباء والتاء من التثبت ، وهما متقاربان في المعنى . ( لمن ألقى ) : من بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، وألقى بمعنى يلقي ؛ لأن النهي لا يصح إلا في المستقبل ، والذي نزلت فيه الآية قال لمن ألقى إليه السلام لست مؤمنا وقتله . و ( السلام ) : بالألف التحية ، ويقرأ بفتح اللام من غير ألف ، وبإسكانها مع كسرة السين وفتحها ، وهو الاستسلام والصلح . ( لست مؤمنا ) : في موضع نصب بالقول . والجمهور على ضم الميم الأولى ، وكسر الثانية ، وهو [ ص: 293 ] مشتق من الإيمان . ويقرأ بفتح الميم الثانية ، وهو اسم المفعول من أمنته . : ( تبتغون ) : حال من ضمير الفاعل في يقولوا . ( كذلك ) : الكاف خبر كان ، وقد تقدم عليها وعلى اسمها . ( إن الله كان ) : الجمهور على كسر إن على الاستئناف ، وقرئ بفتحها ، وهو معمول تبينوا .

قال تعالى : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) ( 95 ) .

قوله تعالى : ( من المؤمنين ) : في موضع الحال ، وصاحب الحال " القاعدون " ، والعامل " يستوي " ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في القاعدين ، فيكون العامل فيه القاعدون ؛ لأن الألف واللام بمعنى الذي . ( غير أولي الضرر ) : بالرفع على أنه صفة " القاعدون " ؛ لأنه لم يقصد به قصد قوم بأعيانهم . وقيل : هو بدل من القاعدين ، ويقرأ بالنصب على الاستثناء من القاعدين ، أو من المؤمنين ، أو حالا ، وبالجر على الصفة للمؤمنين . ( والمجاهدون ) : معطوف على القاعدين . ( بأموالهم ) : يتعلق بالمجاهدين . ( درجة ) : قيل : هو مصدر في معنى تفضيلا . وقيل : حال ؛ أي : ذوي درجة . وقيل : هو على تقدير حذف الجار ؛ أي : بدرجة . وقيل : هو واقع موقع الظرف ؛ أي : في درجة ومنزلة .

( وكلا ) : المفعول الأول لـ " وعد " و " الحسنى " هو الثاني وقرئ : وكل ؛ أي : وكلهم والعائد محذوف ؛ أي : وعده الله : " أجرا " . قيل : هو مصدر من غير لفظ الفعل ؛ لأن معنى فضلهم أجرهم . وقيل : هو مفعول به ؛ لأن فضلهم أعطاهم . وقيل : التقدير : بأجر .

قال تعالى : ( درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) ( 96 ) .

قوله تعالى : ( درجات ) : قيل : هو بدل من أجرا . وقيل : التقدير : ذوي درجات . وقيل : في درجات . ( ومغفرة ) : قيل : هو معطوف على ما قبله . وقيل : هو مصدر ؛ أي : وغفر لهم مغفرة . و ( رحمة ) : مثله .

قال تعالى : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) ( 97 ) .

[ ص: 294 ] قوله تعالى : ( توفاهم ) : الأصل تتوفاهم ، ويجوز أن يكون ماضيا ، ويقرأ بالإمالة .

( ظالمي ) : حال من ضمير الفاعل في تتوفاهم ، والإضافة غير محضة ؛ أي : ظالمين أنفسهم . ( قالوا ) : فيه وجهان : أحدهما : هو حال من الملائكة ، و " قد " معه مقدرة ، وخبر إن " فأولئك " ، ودخلت الفاء لما في الذي من الإبهام المشابه للشرط ، وإن لا تمنع من ذلك ؛ لأنها لا تغير معنى الابتداء . والثاني : أن قالوا خبر إن ، والعائد محذوف ؛ أي : قالوا لهم . ( فيم كنتم ) : حذفت الألف من " ما " في الاستفهام مع حرف الجر لما ذكرنا في قوله : ( فلم تقتلون أنبياء الله ) [ البقرة : 91 ] والجار والمجرور خبر كنتم . و ( في الأرض ) : يتعلق بمستضعفين . ( ألم تكن ) : استفهام ، بمعنى التوبيخ . ( فتهاجروا ) : منصوب على جواب الاستفهام ؛ لأن النفي صار إثباتا بالاستفهام . ( وساءت ) : في حكم بئست .

قال تعالى : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) ( 98 ) .

قوله تعالى : ( إلا المستضعفين ) : استثناء ليس من الأول ؛ لأن الأول قوله : " تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ، وإليه يعود الضمير من مأواهم ، وهؤلاء عصاة بالتخلف عن الهجرة مع القدرة ، وإلا المستضعفين من الرجال هم العاجزون ، فمن هنا كان منقطعا . و ( من الرجال ) : حال من الضمير في المستضعفين ، أو من نفس المستضعفين . ( لا يستطيعون ) : يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا مبينة عن معنى الاستضعاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية