الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  التفكير الموضوعي في الإسلام

                  الدكتور / فؤاد البنا

                  5- قيام الحياة على قيم نسبية:

                  الإسلام دين وسطي، وأمة الإسلام أمة وسطية ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143) ، والوسطية لها معاني لغوية عدة، ومن معانيها الأساسية: البينية، أي التوسط بين طرفين، وهي مساحة واسعة بين طرفين ضيقين، بمعنى أنها تتسع لكثير من الأفهام [ ص: 195 ] والتيارات والجماعات والمذاهب والمواقف المتعددة، والذين يحتكرون الحقيقة يصادمون النسبية ويضيقون الوسطية الواسعة، بل ويضيقون رحمة الله، التي وسعت كل شيء!

                  الجدير بالإشارة هنا أننا نقصد بنسبية الوسطية عدم احتكار أي طرف كان للحقيقة كاملة في أوساط التيارات والمذاهب والطوائف الإسلامية، مع تأكيد وجود الثوابت العامة التي هي محل إجماع الأمة، فإنها معيار للتمييز بين من يفكر ويعمل في دائرة الوسطية الواسعة، ومن اندفع نحو طرف الجحود والتفلت أو طرف الجمود والتزمت.

                  إن الحياة مليئة بالمخلوقات والنباتات والجمادات المختلفة، والقانون الذي ينتظمها هو قانون النسبية، كما قال تعالى: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ) (الرعد:8) ، ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) (القمر:49) ، ( وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ) (فصلت:10) ، ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) (الفرقان:2) ، فإن هذا التقدير هو ذات مفهوم النسبية، حيث خلق الله المخلوقات والكائنات والظواهر المختلفة بنسب مقدرة مضبوطة، ليحيا الإنسان وفق المشيئة الإلهية، لكن هذه النسبية تختل بسبب فساد الإنسان، مثل ظاهرة الاحتباس الحراري وثقب الأوزون، كما قال تعالى: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) (الروم:41). [ ص: 196 ]

                  وكلما اتسعت معارف البشر اكتشفوا المزيد من الحقائق المؤكدة أن الكون يقوم على هذه النسبية، التي أشارت إليها الآيات القرآنية الآنفة الذكر. وكان العالم الشهير "ألبرت إينشتاين" قد اكتشف النظرية النسبية الخاصة سنة 1905م ثم النظرية النسبية العامة سنة1916م، وهي نظرية في علم الفيزياء، أي أنها مرتبطة بالعلوم المادية، وقد كان لها الكثير من الثمار الحلوة والمرة في حياة البشر منذ ذلك الوقت. وما يهمنا هنا هو اكتشاف العلوم لمزيد من الدوائر المؤكدة لنسبية الظواهر الكونية، فإذا كان هذا الأمر يتم في العلوم المادية والطبيعية، فكيف بالعلوم الإنسانية، وخاصة في دوائر الفكر البشري؟!

                  يقول الشيخ محمد الغزالي: "إن شؤون الحياة نسبية كلها، قلما يوجد فيها خير محض أو شر محض، وطبائع الأشياء ومعادن الناس من طبائع هذه الأرض ومعادنها، فالذهب لا يعثر عليه خالصا من الشوائب الرخيصة، ولكنه على كل حال ذهب، والحديد لا يوجد إلا مقرونا بشتى الأخلاط، ولكنه لا يرمى ولا يهمل بل ينقى وينتفع فيه، ومعاني الحياة كمعادن الأرض لا يجوز أن ننتظر وجودها بين أيدينا مصفاة من كل شائبة، مبرأة من كل عيب، بل سيقترن الخير بالشر، ويقترن الطيب بالخبيث... والإسلام ينظر إلى الأمور هذه النظرة الصادقة، فما غلب خيره شره أبيح، وما غلب شره خيره حرم، وعلى هذا الأساس حرم الخمر والميسر ( يسألونك عن [ ص: 197 ] الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) (البقرة:219)" [1] .

                  وفي القرآن الكريم تطبيقات عديدة لهذه النسبية، ومن ذلك قوله تعالى: ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) (البقرة:219)، فقـد تسـاءل عدد من الصحابة عما يجب عليهم في الإنفاق، فجاء الجـواب العام ( العفو ) والعفو هنا هو الفضـل والزائد، وهو مفهـوم نسبي، بمعنى أن هناك من يجب عليه إنفـاق المـلايين، وهناك من لا يطلب منه إلا إخراج الملاليم؛ لأن "الزائد" يختلف من شخص إلى آخر، وهي آية ينبغي أن تخضع للتفكر .

                  وفي كثير من المسائل التي اختلف حولها المفسرون والفقهاء، يمكن بالتدبر والدوران مع المقاصد حلها وحسمها بالتفكير الموضوعي القائم على النسبية، مثل مـاهية "الصـلاة الوسـطى" الوارد ذكرها في قوله تعالى: ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) (البقرة:238) ، فمن يقرأ في كتب أسباب النـزول، يجد روايات مختلفة بين السلف الصالح حول تحديد المقصود بالصلاة الوسطى [2] . ويبدو لي أن الصلاة الوسطى وفقا لهذا الاختلاف ينطبق عليها مفهـوم النسبيـة، بمعنى [ ص: 198 ] أنها ليست فرضا واحدا بالتعيين على طول الخط، فهي تختلف باختلاف الظروف، حيث تكون هي الصلاة الأصعب على الإنسان، ومن ثم فإنها ستختلف من شخص إلى آخر.

                  وإن الناظر في منظومة القيم الإسلامية في مجال الأخلاق سيجد النسبية حاضرة بوضوح، فمع أن الأخلاق من حيث المبدأ تدخل إجمالا ضمن دائرة الثوابت المطلقة، التي لا تتغـير بتغير الزمان والمكان والناس، إلا أن النسبية حاضرة في التنـزيل والتطبيق، إذ أن معظم القيم الأخلاقية فضائل تقع في الوسط بين طرفين مذمومين، فالشجاعة فضيلة بين رذيلتين همـا الجـبن والتهـور، والكرم فضيلـة بين مذمومين هما: البخل والتبذير، وهكذا.

                  أما بالنسـبة للقيـم التي لا تقـع بين طرفـين كالصـدق، فـإن النسـبية حـاضرة فيها بصـورة أخرى، فهناك مواقـع ومواقف يكون الصدق فيها عيبا وليس فضيلة، مثل: إعطاء معلومات دقيقة عن وضع المجتمع والجيش للعدو المحارب، فالخداع هنا مطلوب، والتكتم هنا مطلوب ومحمود، وكذلك إفشاء المعلومات للطالب الممتحن في قاعة الامتحانات، ومواجهة من ابتلاه الله بقبـح في مظهره بالحقيقـة، ونقل المعلومات التي قد تؤدي لفساد ذات البين.. وهكذا. ولا تحضر هـذه النسبية في الأخلاق فحسب، بل تحضر في الأحكام أيضا. [ ص: 199 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية