المبحث الرابع
صفات رئيس الدولة
قسم الجويني الصفات المرعية في اختيار الإمام إلى أربعة أقسام رئيسة: قسم يتعلق بالحواس، وقسم يتعلق بالأعضاء، وقسم يتعلق بالصفات اللازمة، وقسم يتعلق بالصفات المكتسبة. وذكر في كل قسم ما ورد فيه من خلافات وأقوال لأهل العلم، وناقش المسائل المتعلقة بكل قسم من هذه الأقسام، على أساس منهجه القائم على التفريق بين ما هو مقطوع به، وما هو مظنون.
فيما يتعلق بالحواس، ذكر الجويني أن ثلاث حواس لا بد من توافرها في الإمام، وهي: حاسة البصر، والسمع، واللسان، فمن فقد حاسة من هذه الحواس فلا يصلح للإمامة.
وقد وضع الجويني ضابطا لنقصان الأعضاء، يعرف على أساسه من هو صالح للإمامة، ومن هو غير صالح لها، وذلك أن كل "ما لايؤثر عدمه في رأي، ولا عمل من أعمـال الإمـامة، ولا يؤدي إلى شين ظاهر في النظر، فلا يضر فقده"، وما يؤثر عدمه في القيام بواجبات الإمامة، فإن ذلك مانع من تولي الإمامة؛ لأن التعويل في الإمامة على "الكفاية، والنجدة، والدراية، والأمانة" [1] ، وفقد بعض الأعضاء لا ينافي القيام بها.
أما بخصوص الصفات اللازمة، فيذكر الجويني شرط النسب القرشي، وأنه شرط لم يخالف به إلا من لا يعتد بخلافه؛ بيد أنه لا يرى مستند هذا [ ص: 69 ] الشرط قوله صلى الله عليه وسلم : ( الأئمة من قريش ) [2] ، وإنما مستنده الإجماع النظري، والواقع التاريخي، ويقرر في هذا الصدد ثلاثة أمور:
أحدها: أن الحديث المستند إليه في تقرير هذا الشـرط حديث آحاد، لم يبلغ مبلغ التواتر، فهو لا يفيد العلم القطعي، ما يعني أن الحديث لا يصلح مستندا للقائلين باشتراط النسب القرشي.
ثانيها: أن الوجه في اشتراط النسب، إنما هو إجماع سلف هذه الأمة، والواقع التاريخي، وذلك أن سلف هذه الأمة خصوا منصب الخلافة بمن انتسب إلى قريش، وكان جميع من تولى الخلافة عبر التاريخ الإسلامي قرشي النسب، ولم يتطلع أحد ممن لم يكن قرشيا إلى طلب الخلافة، ومن تشوفت نفسه إليها وطلبها، اصطنع الانتساب لقريش، للحصول على المشروعية والتأييد.
ثالثها: وهو الأهـم، أن الجويني يرى أن اشتراط النسب القرشي ليس مما يقتضيه العقل، وبالتالي فإن اشتراطه أمر اعتباري ومعنوي بالمقام الأول، من جهة أنه سبحانه خص هذا المنصب بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك من فضل الله، يؤتيه من يشاء [3] .
ومن الصفات المعتبرة، والملحقة بالصفات اللازمة، يذكر الجويني صفات: الذكورة، والحرية، ورجحان العقل، والبلوغ، مضافا إليها: الشجاعة، والشهامة. واعتبار هذه الصفات فيمن يختار لمنصب الإمامة أمر أوضح من أن يستدل عليه. [ ص: 70 ]
أما الصفات المكتسبة المرعية في الإمامة، فهي العلم والورع، ويضاف إليهما صفة ثالثة، هي توقد الرأي في عظائم الأمور، والنظر في مآلات الأفعال.
ومع أن الجويني يشترط بلوغ الإمام رتبة المجتهدين، بيد أنه يرى أيضا أن من صفات الإمام المستجمع لخصال الكمال، أن يستشير أهل الرأي والحكمة؛ إذ في استشارتهم وقوف على ثمرات عقولهم، ونتائج قرائحهم، وهذا من مقتضيات من بلغ رتبة الاجتهاد؛ لأن المستبد برأيه غير سائر على طريق الرشاد، ولا يأمن المستبد برأيه الحيد عن سنن السداد. أما صفة التقوى والورع، فهي من الصفات المعتبرة والمرعية في اختيار الإمام، ولأجل هذا الاعتبار، فإن الفاسق لا يولى أمور المسلمين؛ إذ لا يوثق بشهادته، فكيف يوثق فيما هو فوق ذلك.
وناقش الجويني في هذا المبحث مسألة عصمة الإمام، وخلص إلى "أن الإمام لا تجب عصمته عن الزلل والخطل"، ورد على من قال بعصمة الأئمة، وقرر أن كل النصوص المذكورة في هذا الخصوص، لا تصلح مستندا للقول بعصمة الأئمة.
وقد اعتمد الجويني دليل الإجماع، واعتمد دليل العقل لرد شرط النسب القرشي؛ وذلك أن العقل لا يقتضي وجوب كون الإمـام منتسبا إلى قريش أو إلى غير قريش؛ يقول في هذا الصدد: "ولسنا نعقل احتياج الإمامة في وضعها إلى النسب" [4] . [ ص: 71 ]