المسألة الرابعة: الحاجة العامة تنـزل منـزلة الضرورة الخاصة:
قرر الجويني أن المكاسب لا غناء للناس عنها؛ فإن فيها قوام الدين والدنيا، فالدين لا يستقيم بدونها، والحياة لا تستمر بانقطاعها. وعلى فرض فساد طرق الكسب الحلال كلها، وعموم الحرام في الأرض، فلا سبيل إلى حمل الخلق على الانكفاف عن سبل الكسب المتاح بقدر الحاجة فحسب.
والدليل على ذلك القياس؛ فكما يحل للمضطر الذي لا يجد طعاما يدفع به جوعته أكل الميتة، فكذلك الأمر في حق عموم الناس، إذا عم الحرام في الأرض. بيد أن الفارق بين حالة الفرد المضطر وحالة عموم الحرام، أن المضطر لا يحل له أكل الحرام إلا إذا شارف على الهلاك. أما في حالة عموم الحرام، فلا يشترط الجويني أن يصل الناس إلى حد الضرورة، بل يكفي أن يصلوا إلى حد الحاجة.
وضابط (الحاجة) أن ينقطع الناس فيما لو تركوا الأخذ بتلك الحاجة عن القيام بمكاسبهم، وأن يحرجوا في تحصيل أسباب معاشهم، بحيث تصيبهم مشقة غير معتادة في القيام بقوام حياتهم. فـ (الحاجة) المرعية ليس المقصود بها [ ص: 137 ] "تشوف الناس إلى الطعـام، وتشـوقهم إليه، فرب مشته لشيء لا يضره الانكفاف عنه، فلا معتبر بالتشهي والتشوف، فالمرعي إذا دفع الضرار، واستمرار الناس على ما يقيم قواهم". والمقصود بـ (الضرار) "ما يتوقـع منه فساد البنية، أو ضعف يصد عن التصرف والتقلب في أمور المعاش".
وضابط (الحاجة)، لا يتحدد بناء على ما هو واقع فحسب، بل ينظر في ضبطها إلى ما هو متوقع أيضا، فيجب أن تكون البنية قوية في الحال والمآل؛ وعبارة الجويني في ذلك: "إن الناس يأخذون ما لو تركوه، لتضرروا في الحال أو في المآل". فاعتبار المآلات يقتضي النظر واقعا ومتوقعا.
وهذه القاعدة إنما يؤخذ بها إذا عم الحرام في الأرض، وانحسمت طرق الحلال، أما "إذا تمكن الناس من تحصيل ما يحل، فيتعين عليهم ترك الحرام، واحتمال الكل في كسب ما يحل، وهذا فيه إذا كان ما يتمكنون منه مغنيا كافيا دارئا للضرورات، سادا للحـاجة" [1] . وإذا كان الحلال غير كاف، ولا سادا للحاجة، فيؤخذ من الحلال ما هو متيسر ومتاح، وتستدرك باقي الحاجة مما لا يحل.
وإذا عم الحرام مكانا دون مكان، وتمكن الناس من الوصول إلى المكان الذي [ ص: 138 ] يوجد فيه الحلال، فهو المتعين عليهم حينئذ، ولا يحل لهم البقاء في المكان الذي عم فيه الحرام؛ لكن إذا تعذر عليهم الوصول إلى المكان الذي يتوافر فيه الحلال لسبب ما، كان لهم الأخذ من الحرام. والمتحصل، أن المتعين على الناس بذل غاية الوسع والجهد لكسب الحلال.
والصورة التي يصورها الجويني لعموم الحرام في الأرض، هي أن يستولي الظلمة على مقاليد الأمور، ويعتدوا على أملاك الناس وأموالهم، ثم يؤول مصير تلك الأموال والأملاك إلى نواحي الحياة الاقتصادية، فتفسد عقود البيع والشراء، وتحيد عن سنن الشرع أبواب المعاملات، ويعم الفساد والحرام أنشطة الحياة الاقتصادية، فحينئذ يعم الحرام في الأرض، وينطبق على الحال حكم القاعدة [2] .