الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. باب المكاتب

( قال ) رضي الله عنه اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في وقت عتق المكاتب [ ص: 206 ] فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول كما أخذ الصحيفة من مولاه يعتق يعني بنفس العقد ; لأن الصحيفة عند ذلك تكتب وكأنه جعل الكتابة واردا على الرقبة كالعتق بجعل يعتق بالقبول وهو غريم للمولى فيما عليه من بدل الكتابة وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول إذا أدى قيمة نفسه عتق وهو غريم للمولى في الفضل فكأنه اعتبر وصول قدر مالية الرقبة إلى المولى ليندفع به الضرر عنه وكان علي رضي الله عنه يقول يعتق بقدر ما أدى فكأنه يعتبر البعض بالكل وهو بناء على قوله يعتق الرجل من عبده ما شاء وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه يقول هو عبد ما بقي عليه درهم وبه أخذ جمهور الفقهاء وقالوا لا يعتق ما لم يؤد جميع البدل والدليل عليه الحديث الذي بدأ به الكتاب ورواه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كاتب عبده على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو رقيق } والأوقية أربعون درهما وفي هذا دليل على أنه لم يعتق شيء منه إلا بأداء جميع البدل وهذا لأن موجب العقد مالكية اليد في حق المكاسب والمنافع للمكاتب فإنه كان مملوكا يدا ورقبة فهو بعقد الكتابة يثبت له مالكية اليد ; لأن مالكية اليد من كرامات بني آدم وهو مع الرق أهل لبعض الكرامات ألا ترى أنه أهل لمالكية النكاح ، ومالكية اليد تنفصل عن مالكية الرقبة ألا ترى أن الراهن يثبت للمرتهن ملك اليد وأن الغاصب يضمن بتفويت اليد فكذلك بالكتابة يثبت له مالكية اليد فأما العتق متعلق بشرط الأداء والشرط يقابل المشروط جملة ولا يقابله جزءا فجزءا ; لأن ثبوت الحكم عند وجود الشرط نظير ثبوت الحكم بالعلة فلهذا لا يعتق شيء منه ما لم يؤد جميع البدل .

وفي هذا الحديث دليل أيضا على أنه لا يستحق على المولى حط شيء من بدل الكتابة عنه ، وإن كان يستحب له ذلك على ما رواه عن علي رضي الله عنه في قوله { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } قال ربع المكاتبة ، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه حط عن مكاتب له أول نجم حل عليه وقرأ هذه الآية ، ولكن الأمر قد يكون بمعنى الندب فبالحديث المرفوع تبين أن المراد الندب دون الحتم وهو مذهبنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يستحق عليه حط ربع البدل وهو قول عثمان رضي الله عنه لظاهر الآية فإن مطلق الأمر للوجوب ; لأن هذا عقد إرفاق يجري بين المولى وعبده ولا يقصد المولى به التجارة وإنما يقصد إيصاله به إلى العتق فيكون إرفاقا ويستحق بكل عقد ما كان العقد مشروعا لأجله فإذا كان هذا العقد مشروعا [ ص: 207 ] للإرفاق ينبغي أن يستحق ما هو محض الإرفاق وهو حط بعض البدل ( وحجتنا ) فيه أن العقد يوجب البدل فلا يجوز أن يكون موجبا لإسقاط البدل إذ الشيء لا يتضمن ضده والقياس لنا فإنه عقد معاوضة فلا يستحق به حط شيء من البدل كسائر المعاوضات إذ يعتبر أحد العوضين بالآخر فالمراد بالآية الندب دون الحتم فإنه معطوف على الأمر المذكور في قوله { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } فذلك ندب وليس بحتم إذ لا يجب عليه أن يكاتب عبده ، وإن علم أن فيه خيرا فكذلك قوله { وآتوهم } لأن حكم المعطوف حكم المعطوف عليه وذكر الكلبي أن المراد به دفع الصدقة إلى المكاتبين فيكون هذا خطابا للناس بصرف الصدقة إلى المكاتبين ليستعينوا بذلك على أداء المكاتبة كما قال في بيان مصارف الصدقات وفي الرقاب والمراد المكاتبون والدليل عليه أنه قال من مال الله والمال المضاف إلى الله تعالى مطلقا هو الصدقة ثم ذكر عن ابن عمر رضي الله عنه أن مكاتبا له عجز فكسر مكاتبته فرده في الرق ففي هذا دليل على أن الكتابة تحتمل الفسخ وفيه دليل على أن المكاتب إذا كسر نجما فللمولى أن يفسخ الكتابة ويرده في الرق وهو قول أبي حنيفة ومحمد ; لأنه قد تغير عليه شرط عقده وذلك يثبت للعاقد حق الفسخ في العقود المحتملة للفسخ .

وقال أبو يوسف رحمه الله لا يرد في الرق ما لم يكسر نجمين وهو قول علي رضي الله عنه قال إذا اجتمع على المكاتب نجمان فدخلا رد في الرق وكان هذا استحسان من أبي يوسف رحمه الله تعالى ; لأن العقد مبني على الإرفاق وفي رده في الرق عند كسره نجما واحدا تضييق عليه فلمعنى التوسع والإرفاق شرط أن يتوالى عليه نجمان وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله قال هذا إذا كانت النجوم مستوية ، فإن كانت متفاوتة فكسر نجما واحدا يرد في الرق ; لأنه لما عجز عن أداء الأقل فالظاهر أنه عن أداء عن الأكثر أعجز ، وفي حديث علي وابن عمر رضي الله عنهم دليل على أن للمولى أن يفسخ الكتابة عند عجز المكاتب من غير أن يحتاج فيه إلى المرافعة إلى القاضي فيكون حجة على ابن أبي ليلى ; لأنه يقول لا يرد في الرق إلا بقضاء القاضي فإن العجز لا يتحقق بدون القضاء فإن المال غاد ورائح ، وجعل هذا العجز نظير عجز العنين عن الوصول إلى امرأته ، ثم الفرقة هناك لا تكون إلا بقضاء القاضي ، ولكنا نقول العقد تم بتراضيهما والمولى ما رضي بلزوم هذا العقد إلا بشرط فإذا فات عليه ذلك الشرط يتمكن من فسخه لانعدام رضاه به بخلاف النكاح فإنه لا يعتمد تمام الرضا وبخلاف الرد بالعيب قبل القبض ; لأن المشتري ينفرد بالرد بالعيب قبل القبض [ ص: 208 ] لفوات شرطه وهو أصل لنا فأما بعد القبض فقد قامت الدلالة لنا على تمام الصفقة بالقبض وبعد تمام الصفقة لا ينفرد بالفسخ لحاجته إلى نقض القبض التام ونقل الضمان إلى البائع ثم اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في المكاتب إذا مات وترك وفاء بمكاتبته قال علي وابن مسعود رضي الله عنهما يؤدي كتابته ويحكم بحريته حتى يكون ما بقي ميراثا لورثته وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه تنفسخ الكتابة بموته والمال كله للمولى وبه أخذ الشافعي رحمه الله تعالى واحتج فيه وقال المعقود عليه فات بموته قبل سلامته وذلك موجب انفساخ العقد كهلاك البيع قبل القبض وهذا لأن المعقود عليه هو الرقبة فإن العقد يضاف إليه والدليل عليه أن فساد العقد يرجع إلى قيمة الرقبة ، والرجوع عند فساد العقد إلى قيمة المعقود عليه ، ولأنه لو بقي لبقي ليعتق بوصول بدل الكتابة إلى المولى .

والميت ليس بمحل للعتق ابتداء لما في العتق من إحداث قوة المالكية وذلك لا يتصور في الميت ولا يجوز أن يستند العتق إلى حال حياته ; لأن المتعلق بالشرط لا يسبق الشرط وفي إسناده إلى حال حياته إثبات العتق قبل وجود الشرط وهو الأداء وهذا بخلاف ما إذا مات المولى ; لأن المولى ليس بمعقود عليه بل هو عاقد والعقد يبطل بهلاك المعقود عليه لا بموت العاقد ولأنه لو بقي العقد بعد موت المولى يعتق بالأداء إلى الورثة وصار المولى معتقا له ويجوز أن يكون الميت معتقا ولا يجوز أن يكون معتقا ألا ترى أنه لو قال لعبده أنت حر بعد موتي كان صحيحا ولو قال بعد موتك كان لغوا ، وكذلك لو أوصى بأن يعتق عبده بعد موته كان صحيحا فإذا أعتق كان المولى هو المعتق حتى يكون الولاء له والفقه في الكل أنه يبقى ملكه بعد موته حكما لحاجته كما في القدر المشغول بالدين فإذا بقي ملكه صار معتقا ، ولكن لا يجوز أن يبقى مملوكا بعد موته حكما ; لأن إبقاء المالكية لمعنى الكرامة وليس في إبقاء المملوكية بعد الموت معنى الكرامة له ، وإذا لم تبق المملوكية لا يتصور أن يكون معتقا بعد موته .

( وحجتنا ) فيه أنه عقد معاوضة لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين فلا ينفسخ بموت الآخر كعقد البيع وهذا لأن قضية مطلق المعاوضة التسوية بين المتعاقدين ، والخصم لا ينازع في هذا ، ولكنه يدعي أن في موت المكاتب فوات المعقود عليه وليس كذلك فإن المعقود عليه ما يسلم للعاقد بمطلق العقد والرقبة لا تسلم له بمطلق العقد وإنما السالم له مالكية اليد وهو المعقود عليه وقد سلم بنفس العقد وإضافة العقد إلى الرقبة لا يدل على أن المعقود [ ص: 209 ] عليه هو الرقبة كما تضاف الإجارة إلى الدار والمعقود عليه المنفعة والرجوع عند الفساد بقيمة الرقبة ليس لأن المعقود عليه هو الرقبة ، ولكن لأن ما هو المعقود عليه لا يتقوم بنفسه وهو مالكية اليد فيصار إلى قيمة أقرب الأشياء إليه كما في الخلع يصار إلى رد المقبوض عند فساد التسمية ; لأن ما هو المعقود عليه غير متقوم ، ثم إذا جاز أن يجعل المولى بعد الموت كالحي حكما حتى يصير معتقا فكذلك يجوز أن يبقى المكاتب حيا حكما حتى يؤدي كتابته فيصير حرا وهذا لأن المملوكية أليق بحال الميت من المالكية ; لأن المملوكية عبارة عن الضعف والمالكية ضرب قوة والضعيف بحال الميت أليق من القوة . والدليل على جواز إبقاء المملوكية بعد موته لحاجته أن كفن العبد بعد موته على مولاه ولا سبب لاستحقاقه عليه سوى المملوكية والأصح أن نقول نحن إنما نبقي المالكية بعد موت المكاتب لما بينا أن بعقد الكتابة يثبت له مالكية اليد في مكاسبه وبه يتمكن من أداء الكتابة فتبقى تلك المالكية بعد موته ; لأن حاجته إلى تحصيل الحرية لنفسه فوق حاجة مولاه إلى الولاء .

فإذا جاز بقاء المالكية بعد موت المولى لحاجته إلى الولاء يبقى بعد موت العبد صفة المملوكية لحاجته إلى الحرية ثم بقاء صفة المملوكية يكون تبعا لا مقصودا ، ومن أصحابنا من يقول لا نجعله حرا بعد الموت ، ولكنا نسند حريته إلى حال حياته ; لأن بدل الكتابة كان في ذمته والدين بالموت يتحول من الذمة إلى التركة ; لأن الذمة لا تبقى محلا صالحا للدين بعد الموت ولهذا حل الأجل بالموت فإذا تحول بدل الكتابة إلى التركة فرغت الذمة منه وفراغ ذمة المكاتب موجب حريته . إلا أنه لا يجوز الحكم بحريته ما لم يصل المال إلى المولى فإذا وصل المال إليه حكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته ( فإن قيل ) لو قذفه قاذف بعد أداء بدل الكتابة فإنه لا يحد قاذفه عندكم ولو حكم بحريته في حال حياته لحد قاذفه ( قلنا ) هذا شيء نثبته حكما للاستحقاق الثابت بالكتابة ولتحقق الضرورة فيه والثابت بالضرورة لا يعدو موضعها فلا يظهر به حريته مطلقا في حالة الحياة ولا يصير محصنا باعتبار حرية ثبتت بطريق الضرورة والحد لا يجب بقذف غير المحصن مع أن الحدود تندرئ بالشبهات والحرية تثبت مع الشبهة ، وكذلك الميراث فإنه يثبت مع الشبهات ومن ضرورة الحكم بموته حرا أن يكون ما بقي من كسبه ميراثا لورثته

التالي السابق


الخدمات العلمية