الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : ويجزي الخصي ومقطوع الأذنين ومقطوع المذاكير عندنا ، ولا يجزئ عند زفر رحمه الله تعالى لأنها مستهلكة من وجه بفوات منفعة مقصودة من الآدمي ، ولكنا نقول بعد قطع الأذنين الشاخصتين : السمع باق وإنما يفوت ما هو زينة وجمال فلا تصير الرقبة به مستهلكة كفوات شعر الحاجبين واللحية ، وفي الخصي ومقطوع المذاكير إنما تفوت منفعة النسل وهو زائد على ما هو المطلوب من المماليك فأما إذا كان مقطوع اليد والرجل من جانب واحد لا يجزئ لأن منفعة المشي فائتة فإنه لا يتمكن من المشي بعصا ، وكذلك إن كان من كل يد ثلاثة أصابع مقطوعة لم يجز لفوات منفعة البطش ، وقطع أكثر الأصابع في هذا كقطع جميعها ، وإن كان المقطوع من كل يد أصبعا أو أصبعين سوى الإبهام يجزي ; لأن منفعة البطش باقية ، وإن كان مقطوع الإبهام من كل يد فمنفعة البطش فائتة ، فلهذا لا يجزي ، وكذلك لا يجوز المفلوج اليابس الشق لفوات جنس المنفعة منه ولا يجوز عتق أم الولد في الكفارة ; لأن المنصوص عليه الرقبة ، وذلك اسم للذات حقيقة وللذات المرقوق عرفا ، وقد دل على الرق قوله تعالى { فتحرير رقبة } فيقتضي قيام الرق مطلقا ، وبالاستيلاد يتمكن النقصان في الرق حتى لا يعود إلى الحالة الأولى بحال ; ولأن قوله تعالى { فتحرير رقبة } يقتضي إنشاء العتق من كل وجه ، وإعتاق أم الولد تعجيل لما صار مستحقا لها مؤجلا فلا يكون إنشاء من كل وجه ، وولد أم الولد بمنزلة أمه ، والمدبر كذلك ; لأن بالتدبير صار مستحقا له ولهذا لا يحتمل التدبير الفسخ ويثبت به استحقاق الولاء .

( قال ) : ولا يجزي إعتاق المكاتب إذا كان أدى شيئا من بدل الكتابة ; لأنه عتق بعوض والكفارة به لا تتأدى قال صلى الله عليه وسلم { : بشر أمتي بالسناء والتمكين ما لم يبتغوا بعمل الآخرة الدنيا } ، ودليل أن المقبوض عوض أنه لو وجده زيوفا رده واستبدل بالجياد ; ولأن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في رقه بعد أدائه بعض البدل فكان علي رضي الله عنه يقول يعتق بقدر ما أدى وابن مسعود رضي الله عنه يقول إذا أدى قيمة نفسه يعتق ، واختلاف الصحابة رضي الله عنهم في رقه شبهة مانعة من جواز التكفير به ، وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يجوز لأن رقه لم ينتقص بما أدى من البدل ، ولهذا احتمل عقد الكتابة الفسخ بعد استيفاء بعض البدل كما احتمل قبله فأما إذا أعتقه قبل أن [ ص: 6 ] يؤدي شيئا جاز عن الكفارة عندنا استحسانا ، وفي القياس لا يجوز ، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله ; لأن استحقاق العتق والولاء يثبت بعقد الكتابة فوق ما يثبت بالتدبير والاستيلاد ولهذا يصير أحق بمكاسبه ، ويعتبر الثلث والثلثان من مال الكتابة دون مالية الرقبة ، ويمتنع على المولى التصرفات فيه فإما أن يقول : يتمكن بهذا السبب نقصان في رقه ، أو يكون كالزائل عن ملك المولى من وجه حتى لو أتلفه يضمن قيمته .

ولو وطئ مكاتبته يغرم العقر ، وثبوت حكم الزوال عن ملكه من وجه يكفي للمنع من التكفير ولأنه في حق المولى كفائت المنفعة ; لأنه صار أحق بمنافعه ومكاسبه ، أو لأن العتق لما صار مستحقا بالكتابة فإذا أوقعه وقع من الوجه المستحق ، ولهذا يسلم له الأولاد والأكساب والعتق عند الكتابة لا تتأدى به الكفارة مع أن هذا من المولى إعتاق صورة فأما في المعنى هو إبراء عن بدل الكتابة ، ولهذا يسقط مال الكتابة ، ويسلم له الأولاد والأكساب ، وهو كما لو أعتقه الوارث بعد موته لا يجزي عن كفارته بالاتفاق .

( وحجتنا ) في ذلك ظاهر الآية ففيها أمر بتحرير الرقبة ، والتحرير تصيير شخص مرقوق حرا وقد حصل . والرقبة اسم لذات مرقوق عرفا والمكاتب كذلك قال صلى الله عليه وسلم { : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم } ولا يتمكن النقصان في رقه ، ولا يصير العتق مستحقا له بسبب الكتابة ; لأن حكم العتق في الكتابة متعلق بشرط الأداء ، ولو علق عتقه بشرط آخر لم يثبت به الاستحقاق فكذلك بهذا الشرط بل أولى ; لأن التعليق بسائر الشروط يمنع الفسخ ، وبهذا الشرط لا يمنع ، ولو تمكن نقصان في رقه لما تصور فسخه وإعادته إلى الحالة الأولى ; لأن نقصان الرق بثبوت الحرية من وجه وكما أن ثبوت الحرية من جميع الوجوه لا يحتمل الفسخ ، فكذلك ثبوته من وجه ولأن الثابت بالكتابة انفكاك الحجر عنه في حق المكاتب ، وبذلك لا يتمكن النقصان في رقه كالإذن في التجارة ، إلا أن ذلك فك بغير عوض ، فلا يكون لازما في حق المولى ، وهذا فك بعوض فيكون لازما ولكن ، مع هذا ، المنافع والمكاسب غير الرقبة فبالتصرف فيها لازما كان أو غير لازم لا يتمكن النقصان في الرق ، والملك كالإعارة مع الإجارة وبسبب اللزوم يمتنع على المولى التصرف فيه .

ويلزمه ضمان العقر والأرش ; لأن ذلك في حكم المكاسب والمنافع ; والمكاسب صارت مستحقة له ولكن بهذا الاستحقاق لا تصير الرقبة في حكم المستهلك وإذا ثبت أن العتق لا يصير مستحقا بهذا السبب ظهر أن إعتاق المولى إياه يكون تحريرا مبتدأ من كل وجه فيصير به ممتثلا للأمر ، والدليل عليه أنه يسقط به بدل الكتابة ولو كان هذا إعتاقا بجهة الكتابة [ ص: 7 ] لتقرر به البدل فإن تسليم المعوض يوجب تقرير البدل ، ولا يجوز أن يكون إعتاقه إبراء لأنه يحتمل بالشرط وإذا أعتق نصفه يعتق ذلك القدر ، والإبراء عن نصف البدل لا يوجب عتق شيء منه فأما سلامة الأكساب والأولاد فلأنه عتق وهو مكاتب لا لأنه عتق بجهة الكتابة ، كما لو كاتب أم ولده ثم مات المولى عتقت بجهة الاستيلاء ، وسلم لها الأولاد والأكساب وهذا لأن العتق في حق المكاتب واحد ، والإعتاق من المولى تختلف جهاته ففيما يرجع إلى حق المكاتب جعل هذا ذلك العتق لكونه متحدا وفي حق المولى يجعل إعتاقا بجهة الكفارة لأنه قصد ذلك ، وهو كالمرأة إذا وهبت الصداق من الزوج ثم طلقها قبل الدخول لا يرجع عليها بشيء ، وتجعل هبتها في حق الزوج تحصيلا لمقصود الزوج عند الطلاق ، وفي حقها تجعل تمليكا بهبة مبتدأة .

التالي السابق


الخدمات العلمية