الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وإذا قذف الحر المسلم امرأته الحرة المسلمة بالزنا ، فإن كفت عن مرافعته فهي امرأته ; لأن حقيقة زناها لا ينافي بقاء النكاح بينهما فالنسب إلى الزنا أولى ، واللعان هنا كالحد في قذف الأجانب ، وذلك لا يستوفى إلا بطلب المقذوف فهذا مثله ، وإن دفعته بدأ الإمام بالرجل فأمره أن يلاعن كما قال الله تعالى في كتابه . يقوم فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا ثم تقوم المرأة فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنا والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به من الزنا أما قيامهما ليس بشرط فسره الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال : لا يضره اللعان قائما أو قاعدا ; لأن اللعان شهادة أو يمين فالقائم والقاعد فيه سواء .

[ ص: 43 ] وذكر في النوادر عن الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا بد أن يقول إني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا ، وهي تقول أنت من الكاذبين فيما رميتني به من الزنا ; لأنه إذا ذكر بلفظة الغائبة يتمكن فيه شبهة واحتمال فلا بد من لفظ الخطاب وفي ظاهر الرواية لم يعتبر هذا ; لأن كل واحد منهما يشير إلى صاحبه ، والإشارة أبلغ أسباب التعريف فإذا فرغا من اللعان ، فرق الإمام بينهما لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لاعن بين العجلاني وامرأته فقال العجلاني : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فهي طالق ثلاثا ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفارقها } فكانت سنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما .

ثم الفرقة لا تقع عندنا إلا بتفريق القاضي ، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه تقع بنفس لعان الزوج ، وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يقع الفرقة بلعانهما فالشافعي رحمه الله تعالى يقول : سبب هذه الفرقة قول من الزوج مختص بالنكاح الصحيح فيتم به كالطلاق وزفر رحمه الله تعالى يستدل بقوله : صلى الله عليه وسلم { المتلاعنان لا يجتمعان أبدا } فنفي الاجتماع بعد التلاعن تنصيص على وقوع الفرقة بينهما ، ولكنا نستدل بالحديث الذي روينا فإن العجلاني رضي الله تعالى عنه أوقع الثلاث عليها بعد التلاعن ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو وقعت الفرقة بينهما لأنكر عليه فإن قيل : قد أنكر عليه بقوله اذهب فلا سبيل لك عليها ( قلنا ) ذاك منصرف إلى طلبه رد المهر فإنه روي أنه قال : { إن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها وإن كنت كاذبا فابعد اذهب فلا سبيل لك عليها } ; ولأن الراوي قال فذلك السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما فدل أنه لا تقع الفرقة إلا بالتفريق ، وكان التفريق هنا بمنزلة فسخ البيع بسبب التحالف عند الاختلاف في الثمن ثم هناك لا ينفسخ البيع ما لم يفسخ القاضي ، فكذلك هنا ، وهذا لأن مجرد اللعان غير موضوع للفرقة ، ولا هو مناف للنكاح إلا أن الفرقة بينهما لقطع المنازعة ، والخصومة ، وفوات المقصود بالنكاح مع إصرارهما على كلامهما فلا يتم إلا بقضاء القاضي فأما قوله : صلى الله عليه وسلم { المتلاعنان لا يجتمعان أبدا } حقيقة هذا اللفظ حال تشاغلهما باللعان كالمتقاتلين والمتضاربين فزفر رحمه الله تعالى يوافقنا ، أن في حال تشاغلهما باللعان لا تقع الفرقة بينهما .

ثم ذكر عن إبراهيم رضي الله تعالى عنه قال : اللعان تطليقة بائنة وإذا أكذب الملاعن عن نفسه جلد الحد وكان خاطبا من الخطاب وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - [ ص: 44 ] فقالا : الفرقة باللعان تكون فرقة بالطلاق ، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله : تكون فرقة بغير طلاق بناء على أن عند أبي يوسف يثبت باللعان الحرمة المؤبدة بينهما وهو قول الشافعي رضي الله عنه وعند أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - لا تتأبد الحرمة بسبب اللعان : حجتهما في ذلك قوله : صلى الله عليه وسلم { المتلاعنان لا يجتمعان أبدا } وهكذا نقل عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم والمعنى فيه أن سبب هذه الفرقة يشترك فيه الزوجان والطلاق يختص به الزوج فما يشترك الزوجان فيه لا يكون طلاقا .

ومثل هذا السبب متى كان موجبا للحرمة كانت مؤبدة كالحرمة بالرضاع : توضيحه أن ثبوت الحرمة هنا باللعان نظير حرمة قبول الشهادة بعد الحد في قذف الأجنبي ، وذلك يتأبد فكذلك هنا وحجة أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أن الثابت بالنص اللعان بين الزوجين فلو أثبتنا به الحرمة المؤبدة كان زيادة على النص ، وذلك لا يجوز خصوصا فيما كان طريقه العقوبات ، ثم هذه فرقة تختص بمجلس الحكم ولا يتقرر سببه إلا في نكاح صحيح فيكون فرقة بطلاق كالفرقة بسبب الجب والعنة . وهذا ; لأن باللعان يفوت الإمساك بالمعروف فيتعين التسريح بالإحسان .

فإذا امتنع منه ناب القاضي منابه فيكون فعل القاضي كفعل الزوج وإذا ثبت أنه طلاق ، والحرمة بسبب الطلاق لا تتأبد ، فأما الحديث فقد بينا أن حقيقة المتلاعنين حال تشاغلهما باللعان ومن حيث المجاز إنما يسميان متلاعنين ما بقي اللعان بينهما حكما وعندنا لا يجتمعان ما بقي اللعان بينهما حكما وإنما تجوز المناكحة بينهما إذا لم يبق اللعان بينهما حكما ; لأنه إذا أكذب نفسه يقام عليه الحد لإقراره على نفسه بالتزام الحد ، ومن ضرورة إقامة الحد عليه بطلان اللعان ، ولا يبقى أهلا للعان بعد إقامة الحد ، وكذلك إن أقرت المرأة بالزنا فقد خرجت من أن تكون أهلا للعان ، وكذلك إن قذفت رجلا فأقيم عليها الحد فعرفنا أن حل المناكحة بينهما بعد ما بطل حكم اللعان فلا يكون في هذا إثبات الاجتماع بين المتلاعنين .

التالي السابق


الخدمات العلمية