الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
: لو أوصى لرجل بأحد عبديه ثم مات فأعتقهما الموصى له ثم عين الوارث ، وصيته في إحداهما تعين ذلك المعين من قبله ثم نصف ما وجب في بدل نفس كل ، واحدة منهما يكون لمولاها ، والنصف لورثتها ; لأن كل واحدة منهما إن كانت حرة فبدل نفسها لوارثها ، وإن كانت أمة فبدل نفسها لمولاها فيتوزع نصفين للمساواة ولو قتلهما رجلان كل واحد منهما قتل إحداهما فإن كان على التعاقب فعلى القاتل الأول قيمة الأولى لمولاها ، وعلى القاتل الثاني ديتها لورثتها ; لأن العتق تعين فيها وإن كان معا فعلى كل واحد منهما قيمة أمة ; لأن كل واحد من القاتلين إنما قتل إحداهما بعينها ، والعتق في حق العين كأنه غير نازل فكانت كل واحدة منهما مملوكة عينا ، وإنما نزول العتق في المنكر ، ولا يتيقن أن كل واحد منهما قاتل لذلك المنكر فإنما وجب على كل واحد منهما القدر المتيقن به ، وهو القيمة ولم يبين في الكتاب أن ذلك للمولى أو لورثتها ، وقيل : هذا والأول سواء النصف للمولى من كل واحدة منهما ، والنصف للورثة ; لأن في حق المولى الحرية ثابتة في إحداهما فلا يستحق بدل نفسها فيتوزع ذلك نصفين لهذا ، ولو قطع أيديهما رجل واحد جميعا معا ، أو إحداهما قبل الأخرى ، أو فعل [ ص: 90 ] ذلك رجلان كان الواجب أرش يدي مملوكتين ، ويسلم ذلك كله للمولى ; لأن بعد قطع اليد يبقى خيار المولى لبقاء كل واحدة منهما محلا للعتق ، وما بقي خيار المولى لا يكون العتق نازلا في عين إحداهما فإنما أبينت يد كل واحدة منهما على حكم الرق بخلاف الرق فإنه لا يبقى خيار المولى في البيان بعدما قتلت أو إحداهما ، وإذا لم يبق خياره لم يكن بد من الحكم بشيوع العتق فيهما .

وإذا كان قاتلهما واحدا نتيقن ، بأنه قتل حرة ، وأمة ، وإن لم يجن عليهما أحد ، ولكن المولى مات قبل أن يبين ، عتق من كل واحدة منهما نصفها وسعت في نصف قيمتها ; لأن البيان فات بموت المولى فإن وارثه لا يخلفه في ذلك فإنه لا يقف على مراده ; ولأن مجرد الخيار لا يورث ، ولما فات البيان شاع العتق فيهما إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى ، وبعدما عتق نصف كل واحدة منهما يجب إخراج النصف الباقي إلى الحرية بالسعاية ، وإن اختار المولى عند الموت إحداهما عتقت كلها ، ولا يعتبر ثلث ماله ; لأن الإيقاع كان منه في الصحة وقد تم الاستحقاق به في حقه معتبرا من جميع ماله ; لأنه لا تنكير في جانبه فلا يتغير ذلك ببيانه عند الموت ، وهو نظير ما لو طلق إحدى نسائه الأربع قبل الدخول من غير عينها كان له أن يتزوج أخرى ; لأن إحداهن قد بانت في حقه فإنه لا تنكير في جانبه ، ولو جنت إحداهما جناية قبل أن يختار المولى ثم اختار إيقاع العتق عليها بعد علمه بالجناية كان مختارا للجناية ; لأنه كان متمكنا من أن يوقع العتق على الأخرى فإيقاعه على هذه في حق أولياء الجناية بمنزلة إعتاق مبتدأ ; لأنه يمتنع به دفعها فيصير مختارا للدية ، ولا يصدق في حقهم أنه كان أرادها بذلك العتق السابق ، وإن مات المولى قبل البيان عتق من كل واحدة منهما نصفها ، وسعت كل واحدة منهما في نصف قيمتها لورثة المولى ، وكان على المولى قيمة التي جنت في ماله ; لأنه تعذر دفعها حين عتق نصفها على وجه لم يصر المولى مختارا بل صار مستهلكا بترك البيان في الأخرى حتى مات فيلزمه قيمتها كما لو أعتق الجانية قبل أن يعلم بالجناية .

ولو باع إحداهما على أنه بالخيار وقع العتق على الأخرى ; لأن تصرفه بالبيع في إحداهما نافذ ، ومن ضرورة نفوذه خروجها من أن تكون محلا لذلك العتق فيتعين في الأخرى ، وكذلك لو باع إحداهما بيعا فاسدا ، وقبضها المشتري وهذا أظهر ; لأن المشتري بالقبض قد ملكها فمن ضرورته تعين العتق في الأخرى ، ولكن قيل : لا معتبر بهذه الزيادة فسواء قبضها المشتري أو لم يقبضها تعين العتق في الأخرى ، لأن البيع اسم خاص لتمليك مال بمال ففي قوله بعت هذا بكذا [ ص: 91 ] إقرار بأنه لا حظ لها في ذلك العتق فيتعين في الأخرى ، ألا ترى أنه لو عرض إحداهما على البيع تعين الأخرى للعتق محفوظ عن أبي يوسف رحمه الله تعالى فإذا باع إحداهما بيعا فاسدا أولى ، وهذا ; لأن دليل البيان ممن له خيار كصريح البيان كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم { لما خير بريرة قال لها : إن وطئك زوجك فلا خيار لك } وكذلك لو باع إحداهما بعينها على أن المشتري بالخيار عتقت الباقية وهذا أظهر ; لأن المشتري لو أعتقها عتقت من قبله فمن ضرورة هذا التصرف خروجها من أن تكون مزاحمة في ذلك العتق .

وكذلك لو كاتب إحداهما ; لأنه بالكتابة يوجب لها ملك اليد في نفسها ، ومكاسبها بعوض ، وهذا لا يتحقق في العتق فكان انتفاء العتق عنها من ضرورة تصرفه وكذلك لو رهن إحداهما ; لأنه أثبت للمرتهن يد الاستيفاء في ماليتها بتصرفه ، ومن ضرورته انتفاء العتق عنها ، وكذلك لو أجر إحداهما ; لأنه التزم بتسليمها إلى المستأجر بولاية الملك ومن ضرورته انتفاء العتق عنها ، وإن استخدمها لم تعتق الباقية ; لأنه ليس من ضرورة استخدامه إياها انتفاء العتق عنها فالإنسان قد يستخدم الحرة خصوصا إذا كانت مولاة له ، ولا يحل له ذلك شرعا برضاها فلا يكون ذلك دليل البيان ، وقد بينا أن الإعتاق من الصبي لا يجوز ، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وكذلك لو قال : كل مملوك أملكه إذا احتلمت فهو حر ; لأن اليمين لا تنعقد إلا بقول ملزم وليس للصبي قول ملزم شرعا خصوصا فيما لا منفعة له فيه ، والمجنون كالصبي ، وإذا قال الصحيح : عبدي حر يوم أفعل كذا ففعل ذلك وهو معتوه عتق عبده إلا على قول ابن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه فإنه يقول المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ، والمعتوه ليس من أهل تنجيز العتق ولكنا نقول : العته لا يعدم ملكه ، ولا يمنع تحقق الفعل منه إنما يهدر قوله ، ولا حاجة إلى قوله عند وجود الشرط ، والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز بذلك التعليق السابق ، وقد صح منه

التالي السابق


الخدمات العلمية