وبكل حال فقد لا يحتاج إلى هذه المقاييس وهذه الطرق النظرية، بل استغنى عنها بالفطرة البديهية الضرورية عاما وخاصا، وبالآيات المشهودة والمسموعة، وعلم جماهير الخلق من هذا الباب، وهو أثبت وأرسخ من علم أولئك، فإن أولئك عندهم من الشك والارتياب وأنواع التلون والاضطراب ما لا يوجد عند عامة هؤلاء فضلا عمن كان من ذوي الألباب.
[ ص: 583 ] والآيات لا يحتاج فيها إلى القياس، كما أن الشعاع آية على الشمس، وليس ذلك بقياس الشمس على غيرها من المؤثرات، وبقياس الشعاع على غيره من الآثار. بل عند الناس علم فطري بالحس والعقل أن نفس الشعاع مستلزم للشمس على وجه لا يشرك الشمس في ذلك غيرها، وما من مخلوق إلا وهو نفسه آية على خالقه على وجه لا يشركه فيه غيره كما قيل:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
لكن الكلام في هذا يحتاج إلى بسط طويل ليس هذا موضعه. وإنما الغرض التنبيه على أن ما ذكره أهل الإثبات من إقرار العباد بفطرهم أن ربهم فوقهم، إذا كان مستلزما لإقرارهم بربهم بفطرهم، وأن الإقرار به فطري، فليس في لزوم ذلك شيء من الاستبعاد إذ على القول بذلك جماهير أصناف العباد، وإنما يستبعد ذلك من غير مبتدعة المتكلمين فطرته، وسلكوا به في مسالكهم الحرجة الضيقة، وأوهموا أنهم هم العارفون بالحجة والدليل دون الأولين والآخرين من كل صنف وجيل. وهذا كما تزعمه القرامطة الباطنية أنهم خلاصة أهل المعرفة [ ص: 584 ] والتحقيق، دون من لم يسلك هذه الطريق. ويزعم الاتحادية أنهم خلاصة الخاصة من أهل الله، دون سائر عباد الله، ويزعم الرافضة أنهم هم أولياء الله المتقون. فدعاوى هؤلاء المتكلمين والجهمية ودعاوى الرافضة والاتحادية والقرامطة والباطنية هي من دعاوى شر البرية. فالحمد لله الذي هدانا بالإسلام ومن علينا [ ص: 585 ] بالقرآن، وأرسل إلينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين.