الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وتجزي الرقبة الكافرة في كفارة الظهار واليمين والإفطار عندنا [ ص: 3 ] ولا تجزي عند الشافعي رضي الله عنه إلا الرقبة المؤمنة لقوله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ولا خبث أشد من الكفر ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه { أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برقبة سوداء ، وقال : علي عتق رقبة أفتجزيني هذه فامتحنها بالإيمان فوجدها مؤمنة فقال : صلى الله عليه وسلم أعتقها فإنها مؤمنة } فامتحانه إياها بالإيمان دليل على أن الواجب لا يتأدى إلا بالمؤمنة ، ولأن هذا تحرير في تكفير فلا يجزي فيه غير المؤمنة ككفارة القتل وهذا لأن الرقبة مطلقة هنا مقيدة بالإيمان في القتل والمطلق محمول على المقيد ; لأن القيد مسكوت عنه في المطلق ، وقياس المسكوت عنه على المنصوص صحيح ، ولأن التعليق بالشرط يقتضي نفي الحكم عند عدمه في عين ما تعلق بالشرط وكذلك في نظائره استدلالا به ، والكفارات جنس واحد فالتقييد بشرط الإيمان في بعضها يوجب نفي الجواز عند عدم الإيمان في جميعها كالتقييد بشرط العدالة في بعض الشهادات أوجب نفي الجواز عند عدمها في الكل وكذلك التقييد بالتبليغ إلى الكعبة في هدي جزاء الصيد أوجب ذلك في جميع الهدايا .

وحجتنا في ذلك ظاهر الآية فالمنصوص اسم الرقبة ، وليس فيه ما ينبئ عن صفة الإيمان والكفر ، فالتقييد بصفة الإيمان يكون زيادة ، والزيادة على النص نسخ فلا يثبت بخبر الواحد ولا بالقياس ثم قياس المنصوص على المنصوص عندنا باطل ; لأنه اعتقاد النقص فيما تولى الله بيانه وذلك لا يجوز ، وكذلك شروط الكفارات لا تثبت بالقياس كأصلها ، ولا يجوز دعوى التخصيص هنا لأن التخصيص فيما له عموم والمطلق غير العام وامتناع جواز العمياء ونظائرها ليس بطريق التخصيص بل لكونها مستهلكة من وجه كما بينا أن التخصيص فيما له لفظ ، والصفة في الرقبة غير مذكورة ولا يقال : بين صفة الكفر والإيمان تضاد فإذا جوزنا المؤمنة انتفى جواز الكافرة ; لأن جواز المؤمنة عندنا لأنها رقبة لا بصفة الإيمان ألا ترى أنا نجوز الصغيرة والكبيرة وبين الصفتين تضاد ، وكذلك نجوز الذكر والأنثى وبين الصفتين تضاد .

ولكن الجواز باسم الرقبة فكان الوصف فيه غير معتبر فأما حمل المطلق على المقيد فالعراقيون من مشايخنا رحمهم الله يجوزون ذلك في حادثة واحدة كما في قوله صلى الله عليه وسلم { في خمس من الإبل شاة } مع قوله { في خمس من الإبل السائمة شاة } ، ولكن الأصح أنه لا يجوز حمل المطلق على المقيد عندنا في حادثة ، ولا في حادثتين حتى جوز أبو حنيفة رحمه الله تعالى التيمم بجميع أجزاء الأرض لقوله : صلى الله عليه وسلم [ ص: 4 ] { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } ولم يحمل هذا المطلق على المقيد وهو قوله صلى الله عليه وسلم { التراب طهور المسلم } وهذا لأن للمطلق حكما وهو الإطلاق وفي حمله على المقيد إبطال حكمه ، وإليه أشار ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله : أبهموا ما أبهم الله ، وامتناع وجوب الزكاة في غير السائمة ليس لحمل المطلق على المقيد بل للنص الوارد بأن لا زكاة في العوامل ، واشتراط العدالة في الشهادات ليس لحمل المطلق على المقيد بل للنص الوارد بالتثبت في خبر الفاسق وكذلك وجوب التبليغ إلى الكعبة في جميع الهدايا للنص ، وهو قوله تعالى { ثم محلها إلى البيت العتيق } ، ولو جاز ذلك إنما يجوز بعد ثبوت المساواة بين الحادثتين ، ولا مساواة بين كفارة القتل وبين سائر الكفارات فإن القتل من أعظم الكبائر وفيه تفويت رقبة مؤمنة مخاطبة بالإيمان بخلاف أسباب سائر الكفارات ففيها من التغليظ ما ليس في غيرها ولهذا لا يكون الإطعام بدلا من الصيام في كفارة القتل بخلاف كفارة الظهار ، واشتراط صفة التتابع عندنا في الصوم في كفارة اليمين ليس بطريق حمل المطلق على المقيد بل بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه ، وهي مشهورة وهي لازمة عليهم فإنهم لا يشترطون صفة التتابع فيها لحمل المطلق على المقيد ،

ولا معنى لقول من يقول لذلك المطلق أصلان أحدهما مقيد بالتفرق وهو صوم المتعة ; لأن ذلك غير مقيد بالتفرق ولكن لا يجوز قبل يوم النحر لأنه مضاف إلى وقت الرجوع بحرف إذا ، وهو قوله تعالى { : وسبعة إذا رجعتم } فأما الحديث فقد ذكر في بعض الروايات أن الرجل قال علي عتق رقبة مؤمنة أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي أن عليه رقبة مؤمنة فلهذا امتحنها بالإيمان مع أن في صحة ذلك الحديث كلاما فقد روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أين الله فأشارت إلى السماء } ولا نظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطلب من أحد أن يثبت لله تعالى جهة ولا مكانا ، ولا حجة لهم في الآية لأن الكفر خبث من حيث الاعتقاد ، والمصروف إلى الكفارة ليس هو الاعتقاد إنما المصروف إلى الكفارة المالية ومن حيث المالية هو عيب يسير على شرف الزوال .

التالي السابق


الخدمات العلمية