الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 482 ] ( ومن أوصى لورثة فلان فالوصية بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ) لأنه لما نص على لفظ الورثة آذن ذلك بأن قصده التفضيل كما في الميراث . ومن أوصى لمواليه وله موال أعتقهم وموال أعتقوه فالوصية باطلة . وقال الشافعي في بعض كتبه : إن الوصية لهم جميعا ، وذكر في موضع آخر أنه يوقف حتى يصالحوا . له أن الاسم يتناولهم لأن كلا منهم يسمى مولى فصار كالإخوة . ولنا أن الجهة مختلفة لأن أحدهما يسمى مولى النعمة والآخر منعم عليه فصار مشتركا فلا ينتظمهما لفظ واحد في موضع الإثبات ، بخلاف ما إذا حلف لا يكلم موالي فلان حيث يتناول الأعلى والأسفل لأنه مقام النفي ولا تنافي فيه ، ويدخل في هذه الوصية من أعتقه في الصحة والمرض ، ولا يدخل مدبروه وأمهات أولاده لأن عتق هؤلاء يثبت بعد الموت والوصية تضاف إلى حالة الموت فلا بد من تحقق الاسم قبله . [ ص: 483 ] وعن أبي يوسف أنهم يدخلون لأن سبب الاستحقاق لازم ، ويدخل فيه عبد قال له مولاه إن لم أضربك فأنت حر لأن العتق يثبت قبيل الموت عند تحقق عجزه ، ولو كان له موال وأولاده موال وموالي موالاة يدخل فيها معتقوه وأولادهم دون موالي الموالاة وعن أبي يوسف أنهم يدخلون أيضا والكل شركاء لأن الاسم يتناولهم على السواء . ومحمد يقول : الجهة مختلفة ، في المعتق الإنعام ، وفي الموالي عقد الالتزام والإعتاق لازم فكان الاسم له أحق ، ولا يدخل فيهم موالي الموالي لأنهم موالي غيره حقيقة ، بخلاف مواليه وأولادهم لأنهم ينسبون إليه بإعتاق وجد [ ص: 484 ] منه ، وبخلاف ما إذا لم يكن له موال ولا أولاد الموالي لأن اللفظ لهم مجاز فيصرف إليه عند تعذر اعتبار الحقيقة . ولو كان له معتق واحد وموالي الموالي فالنصف لمعتق والباقي للورثة لتعذر الجمع بين الحقيقة والمجاز ، ولا يدخل فيه موال أعتقهم ابنه أو أبوه لأنهم ليسوا بمواليه لا حقيقة ولا مجازا ، وإنما يحرز ميراثهم بالعصوبة ، [ ص: 485 ] بخلاف معتق البعض لأنه ينسب إليه بالولاء ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


( قوله ولا يدخل مدبروه وأمهات أولاده ، لأن عتق هؤلاء يثبت بعد الموت ، والوصية تضاف إلى حالة الموت فلا بد من تحقق الاسم قبله ) أقول : له في التعليل كلام ، لأن مقتضى قوله لأن عتق هؤلاء يثبت بعد الموت والوصية تضاف إلى حالة الموت أن لا تجوز الوصية لأحد من هؤلاء أصلا ، إذ يلزم حينئذ أن يكونوا أرقاء في حالة تضاف الوصية إليها وهي حالة الموت ، فإن المفروض كون ثبوت عتقهم بعد الموت وكون إضافة الوصية إلى حالة الموت والوصية للرقيق بشيء غير رقبتها لا تجوز كما نصوا عليه ، وقد مر في الكتاب أن الوصية لأمهات الأولاد بثلث ماله جائزة ، ولا يمكن أن تتعلق تلك الوصية برقبتها لأن الوصية بالرقبة إعتاق والوصية لها لا تحتمل أن تكون إعتاقا لأنها تعتق بموت مولاها وإن لم تكن ثمة وصية أصلا كما حققه الشراح هناك ، فكان بين تلك المسألة وبين هذا التعليل تدافع . ويمكن أن يقال : جواب تلك المسألة على موجب الاستحسان كما ذكروه هناك ، وهذا التعليل على موجب القياس . ووجه الاستحسان [ ص: 483 ] الذي ذكروا هناك غير متمش هاهنا كما يعرف بالتأمل الصادق فلا يصار إليه هاهنا .

( قوله وعن أبي يوسف أنهم يدخلون أيضا والكل شركاء ، لأن الاسم يتناولهم على السواء ) قال بعض المتأخرين : قلت لا يخفى أن تناول الاسم للأعلى والأسفل بطريق التواطؤ ليس بأبعد من كون هذا التناول كذلك ، فالعجب أن أبا يوسف جوز هذا دون ذاك ا هـ . أقول : إن أبا يوسف جوز ذاك أيضا في رواية عنه كما صرح به صاحب الكافي هناك حيث قال : وقال الشافعي : الوصية لهم جميعا ، وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف وهو قول زفر لأن الاسم يتناولهم ا هـ . وصرح به صاحب معراج الدراية أيضا هناك حيث قال : وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن الوصية لهم جميعا وهو قول زفر وأحمد والشافعي في قول ا هـ . وما ذكره المصنف في هذه المسألة رواية أيضا عن أبي يوسف لا قوله مطلقا كما يشير إليه قول المصنف وعن أبي يوسف حيث ذكره بكلمة " عن " ولم يقل وقال أبو يوسف ، ويرشد إليه أيضا أن شمس الأئمة ذكر هذه المسألة في شرح الجامع الكبير ولم يذكر الاختلاف فيها ، بل ذكر فيها القياس والاستحسان ، فقال في القياس يدخلون ، وفي الاستحسان لا يدخلون ، كما ذكر تفصيله في النهاية ومعراج الدراية ، فالعجب من ذلك البعض أنه لم يطلع على رواية تجويز أبي يوسف تناول الاسم للكل في المسألتين معا مع كونها مذكورة في الكتب المشهورة المتداولة ، فتعجب أنه جوز التناول للكل في هذه المسألة دون الأولى ومفاسد قلة التدبير والتتبع مما يضيق عن الإحاطة به [ ص: 484 ] نطاق البيان .

( قوله وبخلاف ما إذا لم يكن له موال ولا أولاد الموالي ، لأن اللفظ لهم مجاز فيصرف إليه عند تعذر اعتبار الحقيقة ) قال صاحب النهاية في شرح هذا المقام : وبخلاف ما إذا لم يكن له موال : أي موالي العتاقة ولا أولاد الموالي : أي ولا أولاد موالي العتاقة يعني حينئذ الثلث لموالي الموالاة . وقال في الجامع الكبير : وإن لم يكن له إلا موالي الموالاة كان الثلث لهم لأن الأحق إذا لم يوجد وجب العمل بما دونه انتهى ، واقتفى أثره صاحب العناية . أقول : ليس هذا بشرح صحيح ، إذ لو كان مراد المصنف ذلك لما صح تعليله بقوله لأن اللفظ لهم مجاز فيصرف إليه عند تعذر اعتبار الحقيقة ، فإن لفظ المولى مشترك بين المعتق وبين مولى الموالاة كما يدل عليه قول المصنف آنفا ، ومحمد يقول : الجهة مختلفة ، في المعتق الإنعام وفي المولى عقد الالتزام ، وقد صرح الشراح قاطبة باشتراكه بينهما وبينوا مراد المصنف هناك على وفق ذاك ، فلو كان مراد المصنف هاهنا ما ذهب إليه صاحبا النهاية والعناية لما صح قوله في التعليل لأن اللفظ لهم مجازا ، إذ لا شك أن اللفظ المشترك حقيقة في كل واحد من معنييه أو معانيه .

والصواب أن مراد المصنف هاهنا هو أنه إذا لم يكن له موال ولا أولاد الموالي فالثلث لموالي الموالي فحينئذ يرتبط قوله وبخلاف ما إذا لم يكن له موال ولا أولاد الموالي بما قبله أشد ارتباط ، وينتظم تعليله بقوله لأن اللفظ لهم مجاز إلخ انتظاما تاما كما لا يخفى ، وقد صرح في الكافي بعين ما قلنا عند تقريره هذه المسألة ، وفي غاية البيان أيضا عند شرح كلام المصنف هنا ، وكأن صاحب النهاية إنما اغتر بما نقله عن الجامع الكبير ، فإن المذكور فيه موالي الموالاة دون موالي الموالي ، لكن التعليل المذكور هناك وهو قوله لأن الأحق إذا لم يوجب وجب العمل بما دونه مطابق للمسألة غير آب عنها ، فإنه لا ينافي الاشتراك لجواز أن يكون أحد معنيي المشترك أحق بالإرادة من الآخر لأمر مرجح ، وإن كان اللفظ حقيقة في كل واحد منهما كما أشار إليه المصنف فيما مر بقوله والإعتاق لازم فكان الاسم له أحق ، بخلاف تعليل المصنف هنا على تقدير أن يراد بالمسألة ما ذكر في الجامع الكبير كما توهمه صاحب النهاية وتبعه صاحب العناية فإنه لا يطابق المسألة حينئذ بل يأباه جدا كما بيناه آنفا .

( قوله ولو كان له معتق واحد وموالي الموالي فالنصف لمعتقه والباقي للورثة لتعذر الجمع بين الحقيقة والمجاز ) أقول : لقائل أن يقول : لم لا يصار هاهنا إلى عموم المجاز صيانة لكلام العاقل عن الإلقاء في حق النصف ، والمصير إلى عموم المجاز مخلص معروف في دفع الجمع بين الحقيقة والمجاز . وطريقه هاهنا أن يحمل الموالي على من كان للموصي مدخل في عتقه أعم من أن يكون بطريق المباشرة كما في معتق نفسه أو بطريق التسبيب كما في معتق معتقه فليتأمل ، والله أعلم .




الخدمات العلمية