الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن رهن عبدا يساوي ألفا بألف إلى أجل فنقص في السعر فرجعت قيمته إلى مائة ثم قتله رجل وغرم قيمته مائة ثم حل الأجل فإن المرتهن يقبض المائة قضاء عن حقه ولا يرجع على الراهن بشيء )

وأصله أن النقصان من حيث السعر لا يوجب سقوط الدين عندنا خلافا لزفر ، وهو يقول : إن المالية قد انتقصت فأشبه انتقاص العين

ولنا أن نقصان السعر عبارة عن فتور رغبات الناس

وذلك لا يعتبر في البيع حتى لا يثبت به الخيار

ولا في الغصب حتى لا يجب الضمان ، بخلاف نقصان العين ; لأن بفوات جزء منه يتقرر الاستيفاء فيه ; إذ اليد يد الاستيفاء ، وإذا [ ص: 191 ] لم يسقط شيء من الدين بنقصان السعر بقي مرهونا بكل الدين ، فإذا قتله حر غرم قيمته مائة ; لأنه تعتبر قيمته يوم الإتلاف في ضمان الإتلاف ; لأن الجابر بقدر الفائت ، وأخذه المرتهن ; لأنه بدل المالية في حق المستحق وإن كان مقابلا بالدم على أصلنا حتى لا يزاد على دية الحر ; لأن المولى استحقه بسبب المالية وحق المرتهن متعلق بالمالية فكذا فيما قام مقامه ، ثم لا يرجع على الراهن بشيء ; لأن يد الرهن يد الاستيفاء من الابتداء وبالهلاك يتقرر ، وقيمته كانت في الابتداء ألفا فيصير مستوفيا للكل من الابتداء

أو نقول : لا يمكن أن يجعل مستوفيا الألف بمائة ; لأنه يؤدي إلى الربا فيصير مستوفيا المائة وبقي تسعمائة في العين ، فإذا هلك يصير مستوفيا تسعمائة بالهلاك ، بخلاف ما إذا مات من غير قتل أحد ; لأنه يصير مستوفيا الكل بالعبد ; لأنه لا يؤدي إلى الربا

قال ( وإن كان أمره الراهن أن يبيعه فباعه بمائة وقبض المائة قضاء من حقه فيرجع بتسعمائة ) ; لأنه لما باعه بإذن الراهن صار كأن الراهن استرده وباعه بنفسه ، ولو كان كذلك يبطل الرهن ويبقى الدين إلا بقدر ما استوفى ، وكذا هذا

قال ( وإن قتله عبد قيمته مائة فدفع مكانه افتكه بجميع الدين ) وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف

وقال محمد : هو بالخيار إن شاء افتكه بجميع الدين ، وإن شاء سلم العبد المدفوع إلى المرتهن بماله

وقال زفر : يصير رهنا بمائة

له أن يد الرهن يد استيفاء وقد تقرر بالهلاك ، إلا أنه أخلف بدلا بقدر العشر فيبقى الدين بقدره

ولأصحابنا على زفر أن العبد الثاني قائم مقام الأول لحما ودما ، ولو كان الأول قائما وانتقض السعر لا يسقط شيء من الدين عندنا لما ذكرنا ، فكذلك إذا قام المدفوع مكانه

ولمحمد في الخيار أن المرهون تغير [ ص: 192 ] في ضمان المرتهن فيخير الراهن كالمبيع إذا قتل قبل القبض والمغصوب إذا قتل في يد الغاصب يخير المشتري ، والمغصوب منه كذا هذا

ولهما أن التغير لم يظهر في نفس العبد لقيام الثاني مقام الأول لحما ودما كما ذكرناه مع زفر ، وعين الرهن أمانة عندنا فلا يجوز تمليكه منه بغير رضاه ، ولأن جعل الرهن بالدين حكم جاهلي ، وأنه منسوخ ، بخلاف البيع ; لأن الخيار فيه حكمه الفسخ وهو مشروع

وبخلاف الغصب ; لأن تملكه بأداء الضمان مشروع ، ولو كان العبد تراجع سعره حتى صار يساوي مائة ثم قتله عبد يساوي مائة فدفع به فهو على هذا الخلاف

التالي السابق


( قوله ولو كان العبد تراجع سعره حتى صار يساوي مائة ثم قتله عبد يساوي مائة فدفع به فهو على هذا الخلاف ) قال صاحب غاية البيان : وهذا تكرار لا محالة ; لأن وضع المسألة في الفصل الثالث فيما إذا تراجع سعر الرهن إلى مائة فقتله عبد قيمته مائة فدفع به وقد ذكر الخلاف فيه فلا حاجة إلى أن يقول بعد ذلك فيه بعينه فهو على هذا الخلاف انتهى

وقال صاحب العناية : قيل في بعض الشروح : وهذا تكرار لا محالة ; لأن وضع المسألة في الفصل الثالث : يعني ما عبرنا عنه ها هنا بالصورة الثالثة فيما إذا تراجع سعر الرهن إلى مائة فقتله عبد قيمته مائة فدفع به وقد ذكر الخلاف ، فلا حاجة إلى أن يقول بعد ذلك فيه بعينه فهو على هذا الخلاف ، وكذلك صاحب النهاية جعل الصورة الثالثة فيما إذا تراجع السعر لكنه لم يتعرض لوقوع التكرار وهو لازم أيضا عليه ، وذلك سوء ظن بمثل صاحب الهداية الذي حاز قصبات السبق في مضمار التحقيق ، وإنما الصورة الثالثة في غير تراجع السعر كما ذكرنا وهذه المسألة في صورة التراجع ولا تكرار ثمة ، إلى هنا لفظ العناية

أقول : ما مر في بيان صور المسائل الثلاث إنما هو عبارة البداية المأخوذة من الجامع الصغير

والإنصاف أنها لا تساعد جعل الصورة الثالثة في غير تراجع السعر كما فعله صاحب العناية وصاحب الكفاية ، وإنما تساعد جعلها في تراجع السعر أيضا كما فعله صاحب النهاية وصاحب معراج الدراية وصاحب الغاية ، أو جعلها فيما هو أعم من تراجع السعر ومن عدم تراجعه فإن نص عبارة البداية على وفق ما في الجامع الصغير هكذا [ ص: 193 ] ومن رهن عبدا يساوي ألفا بألف إلى أجل فنقص في السعر ورجعت قيمته إلى مائة ثم قتله رجل وغرم قيمته مائة ثم حل الأجل فإن المرتهن يقبض المائة قضاء من حقه ولا يرجع على الراهن بشيء ، وإن كان أمره الراهن ببيعه فباعه بمائة قبض المائة قضاء من حقه ورجع بتسعمائة ، فإن قتله عبد قيمته مائة فدفع إليه مكانه افتكه بجميع الدين

وقال محمد رحمه الله : هو بالخيار إن شاء افتكه بجميع الدين وإن شاء سلم العبد المدفوع إلى المرتهن انتهى

ولا يخفى عليك أن قوله فإن قتله عبد إلخ عطف على قوله ثم قتله رجل وأن الظاهر المتبادر أن ضمير قتله في المعطوف راجع إلى ما رجع إليه ضمير قتله في المعطوف عليه ، ولا شك أن الضمير في المعطوف عليه راجع إلى العبد المرهون الذي نقص في السعر ، فكذا الضمير الذي في المعطوف كما ذهب إليه أصحاب النهاية ومعراج الدراية وغاية البيان

وإن أخرج الضمير في المعطوف عما هو الظاهر المتبادر من رجوعه إلى ما رجع إليه ضمير المعطوف عليه فلا أقل من إرجاعه إلى مطلق العبد المرهون المذكور في ضمن العبد المرهون المقيد بنقصان سعره في المعطوف عليه وعلى كلا التقديرين لا يخلو ما ذكره المصنف ها هنا بقوله ولو كان تراجع سعره إلخ عن شائبة التكرار ، وأما إرجاع الضمير في المعطوف إلى العبد المرهون المقيد بعدم تراجع السعر فمما لا تساعده العبارة المذكورة قطعا على مقتضى العربية فلا وجه للمصير إليه تبصر ترشد




الخدمات العلمية