الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن نزع سن رجل فانتزع المنزوعة سنه سن النازع فنبتت سن الأول فعلى الأول لصاحبه خمسمائة درهم ) لأنه تبين أنه استوفى بغير حق [ ص: 295 ] لأن الموجب فساد المنبت ولم يفسد حيث نبت مكانها أخرى فانعدمت الجناية ، ولهذا يستأنى حولا بالإجماع ، وكان ينبغي أن ينتظر اليأس في ذلك للقصاص ، إلا أن في اعتبار ذلك تضييع الحقوق فاكتفينا بالحول لأنه تنبت فيه ظاهرا ، فإذا مضى الحول ولم تنبت قضينا بالقصاص ، وإذا نبتت تبين أنا أخطأنا فيه والاستيفاء كان بغير حق ، إلا أنه لا يجب القصاص للشبهة فيجب المال . قال : ( ولو ضرب إنسان سن إنسان فتحركت يستأنى حولا ) ليظهر أثر فعله ( فلو أجله القاضي سنة ثم جاء المضروب وقد سقطت سنه فاختلفا قبل السنة فيما سقط بضربه فالقول للمضروب ) ليكون التأجيل مفيدا ، وهذا بخلاف ما إذا شجه موضحة فجاء وقد صارت منقلة فاختلفا حيث يكون القول قول الضارب لأن الموضحة لا تورث المنقلة ، أما التحريك فيؤثر في السقوط فافترقا [ ص: 296 ] ( وإن اختلفا في ذلك بعد السنة فالقول للضارب ) لأنه ينكر أثر فعله وقد مضى الأجل الذي وقته القاضي لظهور الأثر فكان القول للمنكر ( ولو لم تسقط لا شيء على الضارب ) وعن أبي يوسف أنه تجب حكومة الألم ، وسنبين الوجهين بعد هذا إن شاء الله تعالى ( ولو لم تسقط ولكنها اسودت يجب الأرش في الخطإ على العاقلة وفي العمد في ماله ، ولا يجب القصاص ) لأنه لا يمكنه أن يضربه ضربا تسود منه ( وكذا إذا كسر بعضه واسود الباقي ) لا قصاص لما ذكرنا ( وكذا لو احمر أو اخضر ) ولو اصفر فيه روايتان . .

التالي السابق


( قوله ولهذا يستأنى حولا بالإجماع ) أي يؤجل سنة بالإجماع . وذكر في التتمة أن سن البالغ إذا سقط ينتظر حتى يبرأ موضع السن لا الحول هو الصحيح ، لأن نبات سن البالغ نادر فلا يفيد التأجيل ، إلا أن قبل البرء لا يقتص ولا يؤخذ الأرش لأنه لا يدري عاقبته انتهى . قال صاحب العناية بعد نقل ذلك إجمالا : وليس بظاهر ، وإنما الظاهر ما قال المصنف ، لأن الحول مشتمل على الفصول الأربعة ولها تأثير فيما يتعلق ببدن الإنسان ، فلعل فصلا منها يوافق مزاج المجني عليه فيؤثر في إنباته . وقال : ولكن قوله بالإجماع فيه نظر ، لأنه قال في الذخيرة : وبعض مشايخنا قالوا : الاستيناء حولا في فصل القلع في البالغ والصغير جميعا لقوله عليه الصلاة والسلام { في الجراحات كلها يستأنى حولا } وهو كما ترى ينافي الإجماع انتهى .

أقول : نظره ساقط ، لأن الذي ينافي الإجماع مما نقله عن الذخيرة إنما هو مفهوم قوله وبعض مشايخنا قالوا : أي مفهوم المخالفة ، لكن مفهوم ذلك إنما هو عدم إجماع المشايخ لا عدم إجماع المجتهدين . ومراد المصنف بالإجماع في قوله ولهذا يستأتى حولا بالإجماع إنما هو إجماع المجتهدين دون إجماع المشايخ ، وانتفاء أحد الإجماعين لا يستلزم انتفاء الآخر ; ألا يرى أن المشايخ كثيرا ما يختلفون في رواية المسألة عن المجتهدين ، فبعضهم يروي اجتماع المجتهدين فيها وبعضهم يروي اختلافهم فيها ، وما نحن فيه يشبه أن يكون من هذا القبيل ، كما يشعر به ما ذكر في غاية البيان ، فإنه قال فيها : ونقل الناطفي في الأجناس عن نوادر أبي يوسف رواية ابن سماعة قال أبو يوسف : رجل قلع سن رجل لا أنتظر بها حولا ، وإنما أنتظر بسن الصبي وأقضي عليه بأرشها ، وذلك لأن نبات السن بعد البلوغ نادر ، وإلى هذه الرواية مال بعض أصحابنا مثل خواهر زاده وغيره .

وقال الناطفي أيضا . قال في المجرد : لو نزع سن صبي ينبغي للقاضي أن يأخذ ضمينا من النازع للمنزوع سنه ويؤجله سنة منذ يوم [ ص: 296 ] نزع سنه ، فإذا مضت سنة ولم تنبت اقتص له . وعلى هذه الرواية لم يفرق كثير من مشايخنا بين سن البالغ والصغير بل قالوا بالاستيناء فيهما جميعا . وإليه ذهب القدوري والسرخسي وغيرهما ، إلى هنا لفظ الغاية . والظاهر أن المصنف أيضا ذهب إليه فقال : ولهذا يستأني حولا بالإجماع من غير فرق بين الصبي والبالغ ، وادعى الإجماع أخذا بما ذكر في المجرد بدون رواية خلاف أحد من المجتهدين . والعجب من صاحب العناية أنه جعل ما ذكر في الذخيرة منافيا للإجماع ولم يجعل ما ذكر في التتمة منافيا له حيث لم يورد النظر به مع كون منافاته إياه أظهر على تقدير حمل الإجماع على إجماع المشايخ كما هو مدار نظره المذكور .

وعن هذا قال صاحب النهاية وصاحبا الكفاية ومعراج الدراية : قوله ولهذا يستأني حولا بالإجماع يخالف رواية التتمة ( قوله ولو لم تسقط ولكنها اسودت يجب الأرش في الخطإ على العاقلة وفي العمد في ماله ) قال في الذخيرة والمحيط : أوجب محمد كمال [ ص: 297 ] الأرش باسوداد السن ، ولم يفصل بين أن يكون السن من الأضراس التي لا ترى أو من العوارض التي ترى . قالوا : يجب أن يكون الجواب فيها على التفصيل إن كان السن من الأضراس التي لا ترى ، إن فاتت منفعة المضغ بالاسوداد يجب الأرش كاملا ، وإلا يجب حكومة العدل ، وإن كان السن من العوارض التي ترى وتظهر يجب كمال الأرش بالاسوداد ، وإن لم تفت منفعته لأنه فوت جمالا على الكمال انتهى .

وهذا ذكره الشراح هنا وعزاه أكثرهم إلى الذخيرة فقط ، وأورد بعض الفضلاء على جواب الشق الثاني من التفصيل أنه مخالف لما ذكروه قبيل فصل الشجاج من أن الجمال تابع في العضو الذي يقصد منه المنفعة انتهى . أقول : يمكن أن يجاب عنه بأن المنفعة في الأسنان التي ترى ليست بمقصودة منها بالذات وإن حصلت فيها أيضا في الجملة ، وإنما المقصود منها بالذات الجمال والزينة للإنسان ، وما ذكروا قبيل فصل الشجاج من كون الجمال تابعا إنما هو في الأعضاء التي يقصد منها المنفعة أصالة كاليد ونحوها فلا مخالفة ( قوله لقوله عليه الصلاة والسلام { لا تعقل العواقل عمدا } الحديث ) قال صاحب الغاية : فيه نظر ، لأنه من كلام ابن عباس والشعبي وقد مر آنفا انتهى . أقول : هذا النظر في غاية السقوط . أما أولا فلأن هذا الحديث كما روي موقوفا عن ابن عباس والشعبي ، روي أيضا مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نص عليه هنا صاحب الكافي حيث قال : والأصل فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام { لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة } انتهى .

وكذا نص عليه المصنف في كتاب المعاقل بهذا المنوال ، فكان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ما روي مرفوعا إليه بلا ريب ، وهذا يكفي في صحة عبارة المصنف هنا كما لا يخفى . وأما ثانيا فلأنه على ما روي موقوفا أيضا يحمل على الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام لأنه مما لا يعلم بالرأي بل يتوقف على السماع ، ومثل هذا يحمل على السماع صيانة للصحابي عن الكذب والجزاف ويصير الموقوف فيه كالمرفوع على ما تقرر في علم الأصول ومر في الكتاب مرارا ، فصح قول المصنف في حق هذا الحديث لقوله عليه الصلاة والسلام [ ص: 298 ] على كل حال . والعجب من صاحب الغاية أنه قال : وقد مر آنفا ، والذي مر منه آنفا يصير جوابا عن نظره هذا فإنه قال هناك : روى محمد بن الحسن في موطئه وقال : أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال " لا تعقل العاقلة عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما جنى المملوك " وهذا لا يعلم إلا من طريق التوقيف ، فحمل على أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لصيانته عن الكذب والجزاف ، إلى هنا لفظه .

وهذا صريح في الجواب عن نظره ها هنا كما لا يخفى




الخدمات العلمية