الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن له أمتان أختان فقبلهما بشهوة فإنه لا يجامع واحدة منهما ولا يقبلها ولا يمسها بشهوة ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يملك [ ص: 49 ] فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح أو يعتقها ) ، وأصل هذا أن الجمع بين الأختين المملوكتين لا يجوز وطئا لإطلاق قوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } ولا يعارض بقوله تعالى { أو ما ملكت أيمانكم } ; لأن الترجيح للمحرم ، وكذا لا يجوز الجمع بينهما في الدواعي لإطلاق النص ، ولأن الدواعي إلى الوطء بمنزلة الوطء في التحريم على ما مهدناه من قبل ، فإذا قبلهما فكأنه وطئهما ، ولو وطئهما فليس له أن يجامع إحداهما ولا أن يأتي بالدواعي فيهما ، فكذا إذا قبلهما وكذا إذا مسهما بشهوة أو نظر إلى فرجهما بشهوة لما بينا إلا أن يملك [ ص: 50 ] فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح أو يعتقها ; لأنه لما حرم عليه فرجها لم يبق جامعا .

وقوله بملك أراد به ملك يمين فينتظم التمليك بسائر أسبابه بيعا أو غيره ، وتمليك الشقص فيه كتمليك الكل ; لأن الوطء يحرم به ، وكذا إعتاق البعض من إحداهما كإعتاق كلها ، وكذا الكتابة كالإعتاق في هذا لثبوت حرمة الوطء بذلك كله ، [ ص: 51 ] وبرهن إحداهما وإجارتها وتدبيرها لا تحل الأخرى ; ألا يرى أنها لا تخرج بها عن ملكه ، وقوله أو نكاح أراد به النكاح الصحيح . أما إذا زوج إحداهما نكاحا فاسدا لا يباح له وطء الأخرى إلا أن يدخل الزوج بها فيه ; لأنه يجب العدة عليها ، والعدة كالنكاح الصحيح في التحريم . ولو وطئ إحداهما حل له وطء الموطوءة دون الأخرى ; لأنه يصير جامعا بوطء الأخرى لا بوطء الموطوءة . وكل امرأتين لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فيما ذكرناه بمنزلة الأختين .

التالي السابق


( قوله وأصل هذا أن الجمع بين الأختين المملوكتين لا يجوز وطئا لإطلاق قوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } ولا يعارض بقوله تعالى { أو ما ملكت أيمانكم } ; لأن الترجيح للمحرم ) قال تاج الشريعة : فإن قلت : الأصل في الدلائل الجمع وأمكن هنا بأن يحمل قوله { وأن تجمعوا } على النكاح ، وقوله { أو ما ملكت [ ص: 50 ] أيمانكم } على ملك اليمين .

قلت : المعنى الذي يحرم الجمع بين الأختين نكاحا وجد هنا وهو قطيعة الرحم فيثبت الحكم هنا أيضا ولأن قوله { أو ما ملكت أيمانكم } مخصوص إجماعا ، فإن أمه وأخته من الرضاع والأمة المجوسية حرام فلا يعارض ما ليس بمخصوص وهو المحرم للجمع انتهى كلامه .

واقتفى أثره صاحب الكفاية والشارح العيني . أقول : في كل من وجهي الجواب نظر . أما في الوجه الأول فلأن حاصله أنه على تقدير أن يحمل قوله { وأن تجمعوا } على النكاح يثبت حكم حرمة الجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين أيضا دلالة لوجود المعنى المحرم فيه أيضا وهو قطيعة الرحم لكنه ليس بتام ، إذ قد تقرر في أصول الفقه أن عبارة النص وإشارته ترجحان على دلالة النص عند التعارض . والظاهر أن إفادة عموم قوله تعالى { أو ما ملكت أيمانكم } حل الجمع بين الأختين المملوكتين وطئا بالعبارة ، ولا أقل من أن يكون بالإشارة ، فيلزم أن يترك بها دلالة الآية الأخرى على حرمة الجمع بينهما وطئا على مقتضى قاعدة الأصول .

وأما في الوجه الثاني فلأن حاصله أن قوله تعالى { أو ما ملكت أيمانكم } من قبيل العام الذي خص منه البعض فصار ظنيا لتمكن الشبهة كما عرف في علم الأصول . فلا يصلح أن يعارض ما هو ليس بمخصوص وهو المحرم للجمع لكونه قطعيا لكنه ليس بتام أيضا ، إذ قد تقرر في أصول الفقه أن العام الذي خص منه البعض إنما يكون ظنيا إذا كان المخصص موصولا ، وأما إذا كان مفصولا متأخرا فالخاص إذ ذاك يكون ناسخا للعام في القدر الذي تناوله الخاص ، ويكون العام في الباقي قطعيا بلا شبهة . والظاهر أن مخصص الأم والأخت من الرضاع والأمة المجوسية من قوله تعالى { أو ما ملكت أيمانكم } ليس بموصول به ، فلم يكن ظنيا في الباقي بل كان قطعيا كالمحرم للجمع فلم يظهر الرجحان من ذلك الوجه حتى لا يصلح للمعارضة فتأمل .

( قوله وقوله بملك أراد به ملك يمين فينتظم التمليك بسائر أسبابه بيعا أو غيره ) قال صاحب العناية : قوله فينتظم التمليك بسائر أسبابه : أي أسباب التمليك كالشراء والوصية والميراث والخلع والكتابة والهبة والصدقة انتهى .

أقول : في بعض تمثيلاته خطأ ، وهو الوصية والميراث والكتابة .

أما في الوصية والميراث فلأن تمليك الغير في الوصية والميراث إنما يثبت بعد موت الموصي والمورث فكيف يدخل ذلك تحت قوله بملك في قوله : فإنه لا يجامع واحدة منهما ولا يقبلها ولا يمسها بشهوة ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يملك فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح ، فإن شيئا من المجامعة والمس والنظر لا يتصور بعد الممات ، على أن نفس التمليك أيضا على حقيقته غير متصور في الإرث . وأما في الكتابة فلأنها ملحقة بالإعتاق كما سيصرح به المصنف بقوله وكذا الكتابة كالإعتاق في هذا فكانت من فروع قوله أو يعتقها غير داخلة في قوله حتى يملك فرج الأخرى غيره بملك ، إذا المراد بالملك هنا ملك اليمين بدلالة عطف قوله أو نكاح عليه . ولا يتصور تمليك الفرج غيره ملك يمين بالكتابة كما لا يخفى على من عرف معنى الكتابة شرعا ( قوله وكذا الكتابة كالإعتاق في هذا لثبوت حرمة الوطء بذلك كله ) قال صاحب العناية : كلمة كذا في قوله وكذا الكتابة كالإعتاق زائدة . وقال الشارح العيني بعد نقل ذلك : قلت زيادة كذا في كلام العرب غير مشهورة انتهى .

أقول : هذا كلام عجيب . إذ لا شك أن مراد صاحب العناية أن كلمة كذا هاهنا زائدة : أي مستدركة لا أنها زائدة كزيادة بعض الحروف لتحسين اللفظ كما توهمه العيني حتى يتوجه إليه قوله زيادة كذا في كلام العرب غير مشهورة . وبالجملة مراد صاحب العناية الدخل لا التوجيه . فما ذكره العيني لغو محض . ثم أقول : يمكن توجيه عبارة المصنف بما يندفع به الاستدراك في كلمة كذا ، وهو أن مراد المصنف وكذا : أي وككون إعتاق البعض من إحداهما كإعتاق الكل الكتابة كالإعتاق : أي كإعتاق الكل . فحينئذ يصير المقصود من كلمة كذا [ ص: 51 ] هاهنا هو التشبيه بما قبله كما كان المقصود من كلمة كذا في قوله وكذا إعتاق البعض من إحداهما كإعتاق كلها هو التشبيه أيضا بما قبله ، فكأنه قال : وأيضا الكتابة كالإعتاق في هذا ، والغرض من التشبيه التشريك في تعليل واحد كما يرشد إليه قوله لثبوت حرمة الوطء بذلك كله فتدبر .

( قوله وبرهن إحداهما وإجارتها وتدبيرها لا تحل الأخرى ; ألا يرى أنها لا تخرج بها عن ملكه ) أقول : كان الظاهر في التعليل هنا أن يقول : لأنه لا تثبت بها حرمة الوطء . فإن مجرد عدم خروجها عن ملكه لا يقتضي أن لا تحل له الأخرى ; ألا يرى أنها لا تخرج عن ملكه بالكتابة أيضا كما تقرر في كتاب المكاتب ، وصرح به الشراح أيضا هنا فيما قبل ، مع أنه إذا كاتب إحداهما تحل له الأخرى كما مر آنفا ، وحمل الملك في قوله لا تخرج بها عن ملكه عن ملك الوطء كما فعله بعض المتأخرين تعسف لا يخفى . إذ المستعمل في اللغة والعرف حل الوطء لا ملك الوطء ، وإنما يقال ملك اليمين أو ملك النكاح .




الخدمات العلمية