الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن أوصى بجارية إلا حملها صحت الوصية والاستثناء ) لأن اسم الجارية لا يتناول الحمل لفظا ولكنه يستحق [ ص: 436 ] بالإطلاق تبعا ، فإذا أفرد الأم بالوصية صح إفرادها ، ولأنه يصح إفراد الحمل بالوصية فجاز استثناؤه ، وهذا هو الأصل أن ما يصح إفراده بالعقد يصح استثناؤه منه ، إذ لا فرق بينهما ، وما لا يصح إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه منه ، وقد مر في البيوع .

التالي السابق


( قوله ومن أوصى بجارية إلا حملها صحت الوصية والاستثناء لأن اسم الجارية لا يتناول الحمل لفظا ولكنه يستحق بالإطلاق تبعا ، فإذا أفرد الأم بالوصية صح إفرادها ) أقول : لقائل أن يقول : هذا التعليل ينتقض بصورة البيع ، فإنه إذا باع جارية إلا حملها فسد البيع مع إمكان جريان هذا التعليل هناك أيضا . لا يقال : إنما فسد البيع لأصل وهو أن ما لا يصح إفراده بعقد لا يصح استثناؤه من ذلك العقد والحمل مما لا يصح إفراده بالبيع فلا يصح استثناؤه منه كما مر في باب البيع الفاسد من كتاب البيوع ، بخلاف الأمر في الوصية : فإن إفراد الحمل بالوصية يصح فكذا استثناؤه منها كما سيأتي في التعليل الثاني . لأنا نقول : ذلك الفرق موجب التعليل الآتي وكلامنا في هذا التعليل الأول فلا معنى للخلط .

ثم إن صاحب العناية قال في شرح أول هذا التعليل : لأن اسم الجارية [ ص: 436 ] لا يتناول الحمل لأنه ليس بموضوع له ولا هو داخل في الموضوع ، وما لا يتناوله اسم الجارية يصح استثناؤه من الجارية كقميصها وسراويلها مما يلتبس بها انتهى .

أقول : مقتضى تقريره أن يكون قول المصنف لأن اسم الجارية لا يتناول الحمل لفظا صغرى لقياس من الشكل الأول كبراه مطوية وهي قوله وما لا يتناوله اسم الجارية صح استثناؤه من الجارية ، وأن يكون ذلك القياس وحده دليلا مستقلا على صحة استثناء الحمل في مسألتنا هذه ، لكن فيه بحث وهو أنه كيف يتم الاستدلال بعدم تناول اسم الجارية للحمل على صحة استثنائه منها ، ومعنى الاستثناء يقتضي خلاف ذلك ، فإن معناه هو الإخراج عما يتناوله صدر الكلام كما هو المتعارف أو المنع من دخول بعض ما تناوله صدر الكلام كما اختاره صاحب التوضيح ، وقال المصنف في باب الاستثناء من [ ص: 437 ] كتاب الإقرار : الاستثناء ما لولاه لدخل تحت اللفظ ، وعلى كل من التعبيرات فتناول صدر الكلام للمستثنى مما لا بد منه في الاستثناء الحقيقي الذي هو المتصل . وأما المنقطع فصيغة الاستثناء مجاز فيه كما عرف في محله سيما في كتب الأصول . ويمكن أن يقال : إن صيغة الاستثناء وإن كانت مجازا في المنقطع إلا أن لفظ الاستثناء حقيقة اصطلاحية في القسمين معا كما نص عليه صاحب التلويح في فصل الاستثناء ، فيجوز أن يراد بالاستثناء المذكور في هذه المسألة هو الاستثناء المنقطع وهو لا يقتضي تناول صدر الكلام للمستثنى بل ينافي ذلك فيتم التقريب . وقال صاحب العناية بعد كلامه السابق : وفيه إشارة إلى ما يقال الحمل جزء من الأم قبل الانفصال كاليد والرجل ، ولو استثنى اليد أو الرجل لم يجز فكذلك الحمل ، وذلك لأن اسم الجارية يتناولهما ا هـ .

واعترض بعض الفضلاء على قوله لأن اسم الجارية يتناولهما حيث قال : إن أراد مقصودا فليس كذلك ، وإن أراد تبعا فالحمل كذلك انتهى .

أقول : هذا في غاية السقوط ، إذ لا شك أن المراد أن اسمها يتناولهما مقصودا ، وقوله فليس كذلك ليس بشيء إذ لا ريب أن اسم الجارية فيما إذا أوصيت بهذه الجارية يتناولها بجميع أجزائها الحقيقية مقصودا ، إذ لا معنى لإيصاء الجارية بدون يدها أو رجلها أو نحو ذلك لامتناع الانتفاع بها بدون أجزائها الحقيقية لعدم انفكاكها عنها بخلاف الحمل فإنه ليس بجزء منها حقيقة قبل الانفصال أيضا ، بل هو بمنزلة الجزء منها عند اتصاله بها كما صرح به المصنف في البيوع ويمكن انفكاكها عنه بوضعها إياه فجاز أن لا يكون مقصودا عند إيصائها كما لا يخفى .

ثم قال صاحب العناية : فإن قيل : فكيف صح الاستثناء وهو تصرف لفظي لا يرد على ما لا يتناوله اللفظ ، فالجواب أن صحته باعتبار تقرير ملك الموصى فيه كما كان قبل الوصية كما لو قال أوصيت لفلان بألف درهم إلا فرسا ، فإن الوصية في الألف صحيحة والاستثناء أيضا صحيح في تقرير ملكه في الفرس لا باعتبار خروجه من المستثنى منه فإنه لم يكن داخلا انتهى .

وقال بعض الفضلاء : فيه بحث ، فإنه صرح في كتاب الإقرار أن ما لا يتناوله اللفظ مقصودا بل يدخل فيه تبعا لا يصح استثناؤه ، لأن الاستثناء تصرف لفظي ، ولو صح الاستثناء باعتبار تقرير الملك لصح في الإقرار أيضا استثناء البناء من الدار والفص من الخاتم والنخلة من البستان فليتأمل في الفرق انتهى . وقصد بعض المتأخرين الجواب عنه فقال : فإن قلت : يشكل حينئذ ما ذكر في كتاب الإقرار أنه لو قال هذه الدار لفلان إلا بناءها فإنه لي وللمقر له الدار والبناء لأن الدار اسم لما أدير عليه الخط والبناء يدخل تبعا ، والاستثناء إنما يصح مما يتناوله الكلام نصا لا تبعا فلم حكموا ببطلان الاستثناء هناك ولم يصححوه باعتبار تقرير الملك كما صححوا به هنا ؟ قلت : إنما لم يصححوا ذلك لاستلزامه إبطال حق ثبت بالإقرار




الخدمات العلمية