الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن أوصى بسهم من ماله فله أخس سهام الورثة إلا أن ينقص عن السدس فيتم له السدس ولا يزاد عليه ، وهذا عند أبي حنيفة ، [ ص: 443 ] وقالا : له مثل نصيب أحد الورثة ولا يزاد على الثلث إلا أن يجيز الورثة ) لأن السهم يراد به أحد سهام الورثة عرفا لا سيما في الوصية ، والأقل متيقن به فيصرف إليه ، إلا إذا زاد على الثلث فيرد عليه لأنه لا مزيد عليه عند عدم إجازة الورثة .

وله أن السهم هو السدس هو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وقد رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيما يروى ، [ ص: 444 ] ولأنه يذكر ويراد به السدس ، فإن إياسا قال : السهم في اللغة عبارة عن السدس ، ويذكر ويراد به سهم من سهام الورثة فيعطى ما ذكرنا ، [ ص: 445 ] قالوا : هذا كان في عرفهم ، وفي عرفنا السهم كالجزء .

التالي السابق


( قوله ولو أوصى بسهم من ماله فله أخس سهام الورثة إلا أن ينقص عن السدس فيتم له السدس ولا يزاد عليه ) اعلم أن هذا المحل من مداحض هذا الكتاب ولهذا [ ص: 443 ] تحير الشراح في حله ; فقال أكثرهم منهم صاحب العناية : معناه فله السدس لا يزاد عليه ولا ينقص عنه . أقول : لا يخفى على ذي فطرة سليمة أنه لو كان المراد هذا المعنى لما كان لأدائه بمثل هذا التركيب المعضل المشوش وجه ، وهل يليق هذا بمنصب المصنف . وقال بعضهم : معنى قوله ولا يزاد عليه في هذه الصورة المستثناة في الكتاب وهي ما إذا كان أخس السهام أنقص من السدس ليوافق رواية الجامع الصغير فعلى هذا يكون ما في الكتاب ساكتا عن بيان الحكم إذا كان أخس السهام أزيد من السدس ا هـ .

أقول : لا يخفى على الفطن أن قول المصنف رحمه الله في تعليل قول أبي حنيفة في هذه المسألة : وله أن السهم هو السدس إلخ يقتضي أن يكون ما للموصى له في هذه المسألة عنده هو السدس مطلقا : أي سواء كان أخس السهام هو السدس أو ناقصا عنه أو زائدا عليه ، فلا مجال لأن يكون ما في الكتاب موافقا لرواية الجامع الصغير على مقتضى التعليل المذكور ، فإن في رواية الجامع الصغير تجوز الزيادة على السدس دون النقصان عنه ، والتعليل المذكور ينافي ذلك . وقال صاحب العناية : فإن قيل : أخس الأنصباء أقله والثمن أقل من السدس فكيف جعله بمعنى السدس ؟ قلت : جعله بمعناه لما ذكره في الكتاب من الأثر واللغة ا هـ .

أقول : الجواب منظور فيه ، لأن ما ذكر في الكتاب إنما يستدعي جعل السهم بمعنى السدس لا جعل أخس الأنصباء الذي هو أقلهما بمعنى السدس ، وكلام المسائل في الثاني دون الأول كما ترى . والحق في الجواب ما يفهم مما ذكر في النهاية نقلا عن المبسوط وهو أن أقل الأنصباء باعتبار الأصل وهو القرابة إنما هو السدس ، وأما الثمن فإنما هو أقلها باعتبار العارض وهو الزوجية ، وما يكون عارضا في مزاحمة ما هو أصل كالمعدوم فيحمل اللفظ على أقل ما يستحق من السهام بالقرابة وهو السدس . ثم قال صاحب العناية : واعلم أن عبارة المشايخ والشارحين في هذا الموضع اختلفت اختلافا لا يكاد يعلم منه شيء ، وسبب ذلك اختلاف رواية المبسوط والجامع الصغير ، قال في الكافي : فعلى رواية الأصل جوز أبو حنيفة النقصان عن السدس ولم يجوز الزيادة على السدس ، وعلى رواية الجامع الصغير جوز الزيادة على السدس ولم يجوز النقصان عن السدس ، ورواية المصنف تخالف كل واحدة منهما لأن قوله إلا أن ينقص عن السدس فيتم له السدس ليس في رواية المبسوط ، وقوله ولا يزاد عليه ليس في رواية الجامع الصغير ، فإما أنه اطلع على رواية غيرهما ، وإما أنه جمع بينهما ، إلى هنا لفظ العناية .

أقول : كيف يتصور الجمع بينهما وقد صرح في الكافي بأن أبا حنيفة جوز على رواية الأصل النقصان عن السدس ولم يجوز الزيادة على السدس ، وجوز على رواية الجامع الصغير الزيادة على السدس ولم يجوز النقصان عن السدس ، ونقل صاحب العناية ما في الكافي على وجه الارتضاء . ومعنى رواية المصنف على ما صرح به الشارح المزبور في صدر المسألة أن أبا حنيفة رحمه الله لم يجوز النقصان عن السدس ولا الزيادة عليه ، فلا جرم تكون هذه الرواية منافية لكل واحدة من روايتي المبسوط والجامع الصغير لا تتحمل الجمع بينهما كما لا يخفى ، فلا وجه لقوله وإما أنه جمع بينهما . وأورد بعض الفضلاء على قوله وقوله ولا يزاد عليه : ليس في رواية الجامع الصغير حيث قال فيه تأمل ، فإن الظاهر أن المراد نفي الزيادة على السدس إذا نقص أخس السهام عن السدس لا مطلقا فحينئذ يكون ما في الكتاب رواية الجامع الصغير ا هـ . [ ص: 444 ] أقول : ليس هذا بمستقيم ، فإن التعليل الذي ذكره المصنف من قبل أبي حنيفة رحمه الله بقوله وله أن السهم هو السدس إلخ يقتضي لا محالة أن يكون المراد بما في الكتاب نفي الزيادة على السدس مطلقا كما يقتضي أن يكون المراد به نفي النقصان عن السدس مطلقا ، فلا مجال لأن يكون المراد به رواية الجامع الصغير ، كما لا مجال لأن يكون المراد به رواية الأصل وقد كنت نبهت عليه فيما مر آنفا .

( قوله ولأنه يذكر ويراد به السدس إلخ ) قال صاحب العناية : قوله ولأنه يذكر ويراد به السدس إلخ مشكل ، لأنه وقع في بعض نسخ الهداية فيعطى ما ذكرنا وفي بعضها فيعطى الأقل منهما . وفسر الأولى بعض الشارحين فقال : يعني إن كان أخس سهام الورثة أقل من السدس يعطى السدس لما ذكرنا أن السهم عبارة عن السدس ، وإن كان أخس السهام أكثر يعطى ذلك ، لأن السهم يذكر ويراد به سهم من سهام الورثة عملا بالدليلين ، فإن كان مراده بقوله ذلك أخس السهام وإن كان أكثر من السدس فليس ذلك بدليل لما في الكتاب فإن فيه الزيادة على السدس ، وقد قال في الكتاب : ولا يزاد عليه وإن كان مراده السدس فما ثمة عمل بالدليلين ا هـ . واعترض بعض الفضلاء على قوله وقد قال في الكتاب ولا يزاد عليه حيث قال : فيه بحث ، إذ ليس المراد نفي الزيادة مطلقا ، بل على تقدير كون أخس السهام ناقصا عن السدس فيصلح ذلك دليلا لما في الكتاب ا هـ . أقول : قد مر منا غير مرة أن قول المصنف رحمه الله في تعليل هذه المسألة من قبل أبي حنيفة بقوله وله أن السهم هو السدس هو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وقد رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقتضي كون المراد من [ ص: 445 ] مسألة الكتاب نفي الزيادة مطلقا فلا يصلح ما ذكره بعض الشارحين دليلا عليه كما قاله صاحب العناية . ثم قال صاحب العناية : وأما الثانية وهو قوله فيعطى الأقل منهما فتؤدي إلى النقصان عن السدس وفي الكتاب إلا أن ينقص عن السدس فيتم له السدس . وأيضا قوله ما ذكرنا إن أراد به السدس فلا تعلق لقوله وقد يذكر ويراد به سهم من سهام الورثة بالدليل لأنه يتم بقول إياس وإن أراد به الأقل منهما عاد الاعتراض المذكور وهو الأداء إلى النقصان عن السدس ا هـ .

وقصد بعض الفضلاء أن يجيب عن قوله وأيضا قوله ما ذكرنا إلخ حيث قال : لم لا يجوز أن يكون معنى الكلام أن السهم يذكر ويراد به السدس ويذكر ويراد به سهم من سهام الورثة فيعطى السدس لتعينه بأثر ابن مسعود رضي الله عنه فليتأمل ا هـ . أقول : ليس هذا بشيء ، لأن أثر ابن مسعود رضي الله عنه هو الدليل الأول ، فلو كان معنى الدليل الثاني ما ذكره ذلك القائل كان مدار هذا الدليل أيضا أثر ابن مسعود فيلزم التكرار والاستدراك كما لا يخفى ، ثم قال صاحب العناية : وأرى أن المراد بقوله ما ذكرنا هو الأقل منهما ليكون معنى النسختين واحدا ، وأشار بذلك إلى رواية المبسوط وهي ما ذكرنا من جواز النقصان دون الزيادة على السدس تنبيها بذلك على أن المذكور في الكتاب من قوله إلا أن ينقص عن السدس فيتم له السدس ولا يزاد عليه ليس رواية واحدة ، وإنما هو مركب من روايتين ا هـ .

أقول : هذا الذي ذهب إليه سقيم جدا لا ينبغي أن يريده العاقل فضلا عن مثل المصنف الفطن الكامل فإن قوله فيعطى ما ذكرنا مذكور بصدد إقامة الدليل على ما قدمه من الرواية المخالفة لرواية المبسوط ورواية الجامع الصغير كما اعترف به هذا الشارح فيما قبل ، فكيف يصح منه الإشارة في الدليل إلى ما يخالف المدعى وينافيه . ثم إن كون المذكور في الكتاب مركبا من روايتي المبسوط والجامع الصغير مما لا مجال له كما بيناه قبل فلا وجه وإنما هو مركب من روايتين




الخدمات العلمية