الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وينظر الرجل من ذوات محارمه إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين . ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها وفخذها ) . [ ص: 32 - 33 ] والأصل فيه قوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } الآية ، والمراد والله أعلم مواضع الزينة وهي ما ذكر في الكتاب ، ويدخل في ذلك الساعد والأذن والعنق والقدم ; لأن كل ذلك موضع الزينة ، بخلاف الظهر والبطن والفخذ ; لأنها ليست من مواضع الزينة ، ولأن البعض يدخل على البعض من غير استئذان واحتشام والمرأة في بيتها في ثياب مهنتها عادة ، فلو حرم النظر إلى هذه المواضع أدى إلى الحرج ، وكذا الرغبة [ ص: 34 ] تقل للحرمة المؤبدة فقلما تشتهى ، بخلاف ما وراءها ، لأنها لا تنكشف عادة . والمحرم من لا تجوز المناكحة بينه وبينها على التأبيد بنسب كان أو بسبب كالرضاع والمصاهرة لوجود المعنيين فيه ، وسواء كانت المصاهرة بنكاح أو سفاح في الأصح لما بينا . قال ( ولا بأس بأن يمس ما جاز أن ينظر إليه منها ) لتحقق الحاجة إلى ذلك في المسافرة وقلة الشهوة للمحرمية ، بخلاف وجه الأجنبية وكفيها حيث لا يباح المس وإن أبيح النظر ; لأن الشهوة متكاملة ( إلا إذا كان يخاف عليها أو على نفسه الشهوة ) فحينئذ لا ينظر ولا يمس لقوله عليه الصلاة والسلام { العينان تزنيان وزناهما النظر ، واليدان تزنيان وزناهما البطش } ، وحرمة الزنا بذوات المحارم أغلظ فيجتنب .

التالي السابق


( قوله وينظر الرجل من ذوات محارمه إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين . ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها وفخذها ) أقول : كان الأنسب أن لا يذكر الفخذ هاهنا ، فإنه لما [ ص: 32 ] تقرر فيما مر عدم جواز أن ينظر الرجل من الرجل مطلقا : أي وإن كان ذا رحم محرم منه إلى ما بين سرته إلى ركبته علم عدم جواز أن ينظر الرجل من المرأة وإن كانت من ذوات محارمه إلى ما بين سرتها إلى ركبتها بالأولوية ; لأن النظر إلى خلاف الجنس أغلظ ، وعن هذا لم يتعرض صاحب المحيط في هذا المقام لذكر شيء مما بين السرة والركبة حيث قال : ولا يحل أن ينظر إلى بطنها ولا إلى ظهرها ولا إلى جنبها ، ولا يمس شيئا من ذلك انتهى .

وظهر منه أيضا أن ذكر الجنب أحق من ذكر الفخذ هاهنا . فإن قلت : المقصود من ذكر الفخذ في الكتاب بيان الواقع والتصريح بما علم التزاما مما تقدم . قلت : فحينئذ كان الأنسب أن يقال : بدل وفخذها ما بين سرتها إلى ركبتها كما ذكره صاحب البدائع حيث قال : ولا يحل النظر إلى ظهرها وبطنها وإلى ما بين السرة والركبة منها ومسها انتهى ، فإن فيه عموم الإفادة . فإن قلت : المقصود بالاكتفاء بذكر الفخذ هو السلوك مسلك الدلالة في إفادة حرمة النظر إلى ما عداه أيضا مما بين السرة والركبة بالأولوية . قلت : فحينئذ كان الأحق الاكتفاء بذكر الركبة ، فإن حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ ، وفي الفخذ أخف منه في السوءة كما تقرر فيما مر ، فبذكر الفخذ لا يعلم حكم الركبة دلالة لكونها أخف منه في حرمة النظر . وأما بذكر الركبة فيعلم حكم الفخذ والسوءة أيضا دلالة بالأولوية لكونهما أقوى منها في حرمة النظر . ثم إن بعض المتأخرين قصد حل بعض عبارة هذه المسألة فقال : وأصل التركيب ذوات الرحم المحارم على أن المحارم صفة الذوات ، وقد يحذف الرحم فيقال ذوات المحارم بطريق المسامحة ، والنكتة فيه شمول المسألة للمحرم بسبب كما سيجيء ، وجعل المحرم هاهنا مصدرا ميميا بمعنى الحرمة مع عدم استعماله فيه لا يلائمه تفسيره بما سيجيء فتأمل ، إلى هنا كلامه .

أقول : فيه خلل . أما أولا فلأنه لو كان أصل التركيب المذكور ذوات الرحم المحارم على أن المحارم صفة الذوات فحذف الرحم وأضيفت الذوات إلى المحارم بطريق المسامحة كان مدلول هذه المسألة مختصا بالمحرم بنسب ، إذ الرحم لا يتصور في غير النسب فلا مجال ; لأن تكون النكتة في حذف الرحم وإضافة الذوات إلى المحارم شمول المسألة للمحرم بسبب ; لأن النكتة في العبارة لا تصلح أن تغير المعنى بالكلية حتى تنقله من الخصوص إلى العموم . وبالجملة بين أن يكون معنى التركيب المذكور ذوات الرحم المحارم ، وبين أن تشمل المسألة المذكورة المحرم بسبب تناف لا يخفى .

وأما ثانيا فلأن قوله وجعل المحرم هاهنا مصدرا ميميا بمعنى الحرمة مع عدم استعماله فيه لا يلائمه تفسيره بما سيجيء ليس بسديد ، فإن كلا من قوله مع عدم استعماله فيه ومن قوله لا يلائمه تفسيره بما سيجيء في حيز المنع .

أما الأول فلأنه قال في المغرب : والمحرم الحرام والحرمة أيضا . وقال في البدائع : النساء في هذا الباب سبعة أنواع . نوع منهن المنكوحات ، ونوع منهن المملوكات ، ونوع منهن ذوات الرحم المحرم كالأم والبنت والعمة والخالة ، ونوع منهن ذوات المحرم بلا رحم وهن المحارم من جهة الرضاع والمصاهرة ، ونوع منهن مملوكات الأغيار ، ونوع منهن من لا رحم لهن ولا محرم وهن الأجنبيات الحرائر ، ونوع منهن من ذوات الرحم بلا محرم كبنت العم والعمة والخال والخالة ا هـ .

ولا يخفى على الفطن أن المحرم المذكور ثمة في مواضع متعددة إنما يصلح منه أن يكون بمعنى الحرام ما ذكر في قوله ذوات الرحم المحرم ، والباقي منه بمعنى الحرمة لا غير كما في قوله ذوات المحرم بلا رحم ، وقوله من لا رحم لهن ولا محرم ، وقوله ذوات الرحم بلا محرم يظهر كل ذلك بالتأمل الصادق والذوق الصحيح .

وقال في فتاوى قاضي خان : ولا بأس للرجل أن ينظر من أمه وابنته وأخته البالغة وكل ذات رحم محرم منه كالجدات وأولاد الأولاد والعمات والخالات إلى شعرها ورأسها وصدرها وبدنها وعنقها وعضدها وساقها ، ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها ولا إلى ما بين سرتها إلى أن تجاوز الركبة ، وكذا إلى كل ذات محرم برضاع أو صهرية كزوجة الأب والجد وإن علا وزوجة الابن وأولاد الأولاد وإن سفلوا ، وابنة المرأة المدخول بها ، فإن لم يكن دخل بها فهي كالأجنبية انتهى .

[ ص: 33 ] ولا يخفى على الفطن أيضا أن المحرم المذكور في قوله وكذا إلى كل ذات محرم برضاع أو صهرية بمعنى الحرمة دون الحرام ، إذ لا معنى لأن يقال : كل ذات حرام : أي صاحبة حرام ; لأن الحرام هي صاحبة الحرمة نفسها فلا معنى لإضافة الذات إليه .

وأما الثاني فلأنه إنما لا يلائمه تفسيره بما سيجيء لو كان مراد المصنف بما سيجيء تفسير المحرم الذي هو مفرد المحارم في قوله وينظر الرجل من ذوات محارمه .

وأما إذا كان مراده بذلك تفسير المحرم بمعنى الحرام المأخوذ من مجموع قوله ذوات محارمه لا من قوله محارمه فقط فلا يلزم عدم الملاءمة كما لا يخفى . والظاهر أن مراد المصنف هو الثاني . ويعضده تقرير صاحب المحيط في هذه المسألة حيث قال : وأما النظر إلى ذوات محارمه فنقول : يباح النظر إلى موضع زينتها الظاهرة والباطنة . ثم قال : وذوات المحارم من حرم عليه نكاحهن بالنسب نحو الأمهات والبنات والجدات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ، أو بالسبب كالرضاع والمصاهرة انتهى .

فإنه فسر ذوات المحارم بما فسر به المصنف المحرم نفسه . ثم إن التحقيق في معنى التركيب المذكور وهو قولهم ذوات محارمه أنه إذا أريد به من حرم عليه نكاحهن بالنسب وحده . ويجوز أن يكون أصله ذوات الرحم المحارم على أن يكون المحارم صفة الذوات وتكون جمع محرم بمعنى حرام ، ويجوز أن يكون معناه ذوات الحرمات على أن يكون المحارم جمع محرم بمعنى الحرمة . وأما إذا أريد به من حرم عليه نكاحهن بنسب أو سبب كما في مسألة الكتاب فلا مجال لتقدير الرحم لكونه منافيا للتعميم بل يتعين المعنى الثاني .

( قوله والأصل فيه قوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } الآية ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : وقوله والأصل فيه : أي في جواز ما جاز وعدم جواز ما لم يجز على تأويل المذكور قوله تعالى { ولا يبدين زينتهن } الآية ، وتبعه الشارح العيني أقول فيه نظر ; لأن الآية المذكورة إنما تدل على جواز ما جاز وهو النظر إلى مواضع الزينة . ولا تدل على عدم جواز ما لم يجز . وإنما يدل عليه آية أخرى وهي قوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } كما أفصح عنه صاحب البدائع حيث قال : ولا يحل النظر إلى ظهرها وبطنها ولا ما بين السرة والركبة منها ومسها لعموم قوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } إلا أنه رخص للمحارم النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة والباطنة بقوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } الآية ، فبقي غض البصر عما وراءها مأمورا به ، وإذا لم يحل النظر فالمس أولى ; لأنه أقوى انتهى ، أو آية الظهار كما أشار إليه صاحب المحيط حيث قال : ولا يحل أن ينظر إلى بطنها ولا إلى ظهرها ولا إلى جنبها ولا يمس شيئا من ذلك .

والوجه فيه أن الله تعالى سمى الظهار في كتابه منكرا من القول وزورا . وصورة الظهار أن يقول الرجل لامرأته : أنت كظهر أمي ، ولولا أن ظهرها محرم عليه نظرا ومسا لما سمى الظهار منكرا من القول وزورا . وإذا ثبت هذا في الظهر ثبت في البطن والجنبين انتهى فتأمل ( قوله ولأن البعض يدخل على البعض من غير استئذان واحتشام والمرأة في بيتها في ثياب مهنتها عادة ، فلو حرم النظر إلى هذه المواضع أدى إلى الحرج ) قال بعض المتأخرين : وتقرير هذا الدليل واضح ، إلا أن قوله يدخل على البعض من غير استئذان يشكل بما ذكره [ ص: 34 ] صاحب البدائع في مسائل الدخول في بيت الغير أنه إذا كان من محارمه فلا يدخل عليه من غير استئذان ، فربما كانت مكشوفة العورة فيقع بصره عليها فيكرهان ذلك ، ثم استدل عليه بآثار انتهى كلامه .

أقول : مراد المصنف بقوله إن البعض يدخل على البعض من غير استئذان أن العادة جرت بين الناس على دخول بعض المحارم على بعضهم من غير استئذان ، لا أنه أمر مندوب في الشرع وما ذكره صاحب البدائع حكم الشرع في أمر الدخول في بيت الغير فإنه قال . وأما حكم الدخول : في بيت الغير فالداخل لا يخلو إما أن يكون أجنبيا أو من محارمه ، فإن كان أجنبيا فلا يحل له الدخول فيه ، ثم قال : وإن كان من محارمه فلا يدخل من غير استئذان أيضا ، وإن كان يجوز له النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة والباطنة ، ثم قال : إلا أن الأمر في الاستئذان على المحارم أسهل وأيسر ; لأن المحرم مطلق النظر إلى مواضع الزينة منها شرعا انتهى . فقد تلخص منه أن الدخول في بيت الأجنبي من غير استئذان حرام ، والدخول في بيت محارمه من غير استئذان مكروه ، ويكفي في التأدي إلى الحرج جريان العادة بين الناس بدخول بعض المحارم على بعضهم بلا استئذان ، وإن كان ذلك مما لا يمدح في حكم الشرع ، والحرج مدفوع شرعا فلا إشكال ( قوله والمحرم من لا تجوز المناكحة بينه وبينها على التأبيد بنسب كان أو سبب كالرضاع والمصاهرة لوجود المعنيين فيه ) يعني بالمعنيين الضرورة وقلة الرغبة ، كذا في الشروح . وفي عبارة بعضهم : يعني الحرج وقلة الرغبة .

قال تاج الشريعة : فإن قلت : فعلى هذا ينبغي أن لا يقطع إذا سرق المرء من بيت أمه من الرضاع لجواز الدخول من غير احتشام واستئذان فوقع نقصان في الحرز . قلت : لا يقطع عند البعض . وأما جواز الدخول من غير استئذان فممنوع ، ذكر خواهر زاده أن المحارم من جهة الرضاع لا يكون لهم الدخول من غير حشمة واستئذان ولهذا يقطعون بسرقة بعضهم من بعض ، انتهى كلامه . واقتفى أثره العيني في ذكر هذا السؤال والجواب بعينهما . أقول : ليس الجواب بتام ، أما قوله قلت لا يقطع عند البعض فلأن عدم القطع عند البعض هو إحدى الروايتين [ ص: 35 ] عن أبي يوسف كما مر في كتاب السرقة لا يدفع السؤال على قول أبي حنيفة ومحمد ، وعلى قول أبي يوسف أيضا في رواية أخرى عنه فإن كون المحرم بسبب الرضاع في حكم المحرم بالنسب متفق عليه ، وإذا كانت العلة في ذلك وجود المعنيين المذكورين كما قاله المصنف يتوجه السؤال المذكور على قول الأكثر وهو القول المختار وظاهر الرواية كما تقرر في كتاب السرقة ، ولا يدفعه عدم القطع عند البعض كما لا يخفى . وأما قوله وأما جواز الدخول من غير استئذان فممنوع ، وتأييد ذلك بما ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده فلأنه إن لم يكن للمحارم من جهة الرضاع الدخول من غير حشمة واستئذان لم يصح قول المصنف لوجود المعنيين فيه ، فإن وجود أحد ذينك المعنيين فيه يتوقف على أن يكون له الدخول من غير حشمة واستئذان كما تحققته ، ومبنى السؤال المذكور على صحة قوله كما يفصح عنه الفاء في قول السائل فعلى هذا ينبغي أن لا يقطع إذا سرق المرء من بيت أمه من الرضاع ، فالأولى في الاستدلال على كون المحرم بسبب في حكم المحرم بنسب أن يصار إلى الدليل النقلي كما فعله صاحب البدائع حيث قال : وأما النوع الرابع وهو ذوات المحرم بلا رحم فحكمهن حكم ذوات الرحم المحرم .

والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } وروي { أن أفلح استأذن أن يدخل على عائشة رضي الله عنها ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : ليلج عليك فإنه عمك أرضعتك امرأة أخيه } انتهى . وقال في المبسوط بعد ما ذكر حكم ذوات المحارم بالنسب والمحرمة بالرضاع وكذلك المحرمة بالمصاهرة ; لأن الله تعالى سوى بينهما بقوله { فجعله نسبا وصهرا } .




الخدمات العلمية