الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( ومن قطع يد رجل فعفا المقطوعة يده عن القطع ثم مات من ذلك فعلى القاطع الدية في ماله ، وإن عفا عن القطع وما يحدث منه ثم مات من ذلك فهو عفو عن النفس ، ثم إن كان خطأ فهو من الثلث ، وإن كان عمدا فهو من جميع المال ) وهذا عند أبي حنيفة ، وقالا : إذا عفا عن القطع فهو عفو عن النفس أيضا ، وعلى هذا الخلاف إذا عفا عن الشجة ثم سرى إلى النفس ومات ، لهما أن العفو عن القطع عفو عن موجبه ، وموجبه القطع لو اقتصر أو القتل إذا سرى ، فكان العفو عنه عفوا عن أحد موجبيه أيهما كان ، ولأن اسم القطع يتناول الساري والمقتصر فيكون العفو عن قطع عفوا عن نوعيه وصار كما إذا عفا عن الجناية فإنه يتناول الجناية السارية والمقتصرة . كذا هذا . وله أن سبب الضمان قد تحقق وهو قتل نفس معصومة متقومة والعفو لم يتناوله بصريحه لأنه عفا عن القطع وهو غير القتل ، وبالسراية تبين أن الواقع قتل وحقه فيه ونحن نوجب ضمانه . وكان ينبغي أن يجب القصاص وهو القياس لأنه هو الموجب للعمد ، إلا أن [ ص: 252 ] في الاستحسان تجب الدية ، لأن صورة العفو أورثت شبهة وهي دارئة للقود . ولا نسلم أن الساري نوع من القطع ، وأن السراية صفة له ، بل الساري قتل من الابتداء ، وكذا لا موجب له من حيث كونه قطعا فلا يتناوله العفو ، بخلاف العفو عن الجناية لأنه اسم جنس ، وبخلاف العفو عن الشجة وما يحدث منها لأنه صريح في العفو عن السراية والقتل ، ولو كان القطع خطأ فقد أجراه مجرى العمد في هذه الوجوه وفاقا وخلافا ، [ ص: 253 ] آذن بذلك إطلاقه ، إلا أنه إن كان خطأ فهو من الثلث ، وإن كان عمدا فهو من جميع المال ، لأن موجب العمد القود ولم يتعلق به حق الورثة لما أنه ليس بمال فصار كما إذا أوصى بإعارة أرضه . [ ص: 254 ] أما الخطأ فموجبه المال ، وحق الورثة يتعلق به فيعتبر من الثلث . .

التالي السابق


( قوله ولأن اسم القطع يتناول الساري والمقتصر فكان العفو عنه عفوا عن نوعيه ) أقول : أسلوب التحرير يقتضي أن يكون ما سبق دليلا تاما لهما وهذا أيضا دليلا آخر مستقلا لهما ، لكن لا يخفى على الفطن أن ما سبق لا يتم دليلا لهما بدون انضمام هذا إليه ، لأنه إذا لم يتقرر أن اسم القطع يتناول الساري والمقتصر لا يتقرر كون القتل أحد موجبي القطع ، فإنه إذا لم يتناول اسم القطع الساري أيضا لا يتصور كون القتل أحد موجبي القطع ، إذ لا يحتمل أن يكون القطع المقتصر موجبا للقتل أيضا تدبر .

( قوله وكان ينبغي أن يجب القصاص وهو القياس ) قلت : وكان ينبغي أن يقول : وكان الظاهر أن يجب القصاص بدل قوله وكان ينبغي أن يجب القصاص ، لأن الذي ينبغي هو موجب الاستحسان [ ص: 252 ] دون موجب القياس ، إلا أن موجب القياس هو الظاهر في بادئ الرأي ( قوله ولو كان القطع خطأ فقد أجراه مجرى العمد في هذه الوجوه وفاقا وخلافا ) قال جمهور الشراح في بيان هذه الوجوه : وهي الأربعة التي هي العفو عن القطع مطلقا ، والعفو عن القطع وما يحدث منه ، والعفو عن الشجة ، والعفو عن الجناية انتهى .

أقول : ليس هذا بسديد ، لأن معنى كلام المصنف هاهنا أن محمدا رحمه الله أجرى القطع خطأ مجرى العمد في هذه الوجوه المذكورة في المسألة المارة التي هي من مسائل الجامع الصغير ، والعفو عن الشجة لم يكن مذكورا في كلام محمد في الجامع الصغير قط ، وإنما ذكره فخر الإسلام في شرح الجامع الصغير حيث قال : وكذلك الاختلاف في الضرب والشجة والجراحة في اليد وما أشبه ذلك ، وكذا ذكره المصنف في الهداية دون البداية حيث قال : وعلى هذا الاختلاف إذا عفا عن الشجة ثم سرى إلى النفس ومات ، والمصنف هنا بصدد بيان ما يتناوله كلام محمد في المسألة المارة التي هي مسألة الجامع الصغير فكيف يتصور درج العفو عن الشجة في مضمون ذلك كما فعله جمهور الشراح حيث فسروا هذه الوجوه في قوله فقد أجراه مجرى العمد في هذه الوجوه بما يشمل العفو عن الشجة أيضا ، فالوجه أن مراد المصنف بهذه الوجوه هي الوجوه الثلاثة ، وهي العفو عن القطع مطلقا ، والعفو عن القطع وما يحدث منه ، والعفو عن الجناية ، [ ص: 253 ] لأن هذه الثلاثة هي المذكورة في مسألة الجامع الصغير .

وأما العفو عن الشجة فقد ذكره المصنف فيما مر استطرادا وبين أن حكمه كحكم ما ذكر في مسألة الجامع الصغير أخذا مما ذكر فخر الإسلام في شرح الجامع الصغير ( قوله آذن بذلك إطلاقه ) أي أعلم بذلك إطلاق لفظ الجامع الصغير وهو قوله ومن قطع يد رجل فعفا المقطوعة يده عن القطع حيث لم يتعرض للعمد ولا للخطإ فكان متناولا لهما ، كذا في عامة الشروح .

قال صاحب الغاية بعد أن شرح المقام كذلك : هذا تقرير ما اقتضاه كلام صاحب الهداية وذلك ممنوع عندنا لأن محمدا قيده بالعمد في أصل الجامع الصغير كما ذكرنا روايته ، وكذلك قيد الفقيه أبو الليث وفخر الإسلام والصدر الشهيد وغيرهم في شروح الجامع الصغير بالعمد فلا يصح حينئذ دعوى الإطلاق ا هـ .

وأما ما عدا صاحب الغاية من الشراح فسألوا هاهنا وأجابوا حيث قالوا : فإن قيل : لا نسلم أن لفظه مطلق بل هو مقيد بالقطع العمد بدليل جواب المسألة وهو قوله فعلى القاطع الدية في ماله فإنه يبين أن مراده العمد ، لأن الدية في الخطإ على العاقلة : قلنا : وضع المسألة مطلق بلا شك إذ القيد غير ملفوظ ، لكن الجواب إنما هو لأحد نوعي القطع فتقديره فعلى القاطع الدية في ماله إن كان القطع عمدا ، انتهى كلامهم .

أقول : لا يذهب عليك أن جوابهم هذا لا يسمن ولا يغني من جوع ، إذ لا شك أن مقصود المصنف هنا بيان إجراء محمد القطع خطأ مجرى العمد في أحكام هذه الوجوه وفاقا وخلافا ، ولا ريب أن حكم المسألة إنما يؤخذ من جوابها ، وإذا كان الجواب في لفظ الجامع الصغير مخصوصا بصورة العمد فكيف يؤذن مجرد إطلاق وضع المسألة باشتراك نوعي القطع في الحكم ، إذ لو آذن ذلك باشتراكهما في الحكم لآذن باشتراكهما في الحكم المستفاد من الجواب ، وقوله فيما له مانع عن ذلك لا محالة فلا مؤذن للاشتراك قط فلم يتم قول المصنف آذن بذلك إطلاقه فتأمل ( قوله لأن موجب العمد القود ولم يتعلق به حق الورثة لما أنه ليس بمال ) قال في العناية : فيه بحث ، وهو أن القصاص موروث بالاتفاق فكيف لم يتعلق به حق الورثة .

ثم قال : والجواب عنه أن المصنف نفى تعلق حق الورثة به لا كونه موروثا ، ولا تنافي بينهما لأن حق الورثة إنما يثبت بطريق الخلافة ، وحكم الخلف لا يثبت مع وجود الأصل ، والقياس في المال أيضا ألا يثبت فيه تعلق حقهم إلا بعد موت المورث ، لكن ثبت ذلك شرعا بقوله عليه الصلاة والسلام { لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس } وتركهم أغنياء إنما يتحقق بتعلق حقهم بما يتحقق به الغنى وهو المال ، فلو لم يتعلق به لتصرفه فيه لتركهم عالة يتكففون الناس ، والقصاص ليس بمال فلا يتعلق به لكنه موروث انتهى .

أقول : في تقرير البحث المذكور خلل فاحش ، وفي تحرير الجواب المزبور التزام ذلك . أما الأول فلأنه سيجيء في أول باب الشهادة في القتل أن القصاص يثبت لورثة القتيل ابتداء لا بطريق الوراثة من المقتول عند أبي حنيفة رحمه الله ، وأما عندهما فيثبت للقتيل ابتداء ، ثم ينتقل بموته إلى ورثته بطريق الوراثة منه كالدين والدية ، فقوله رحمه الله [ ص: 254 ] إن القصاص موروث بالاتفاق كذب صريح .

وقد مر نظير هذا من صاحب العناية في الفصل السابق وبينت بطلانه هناك أيضا فتذكر وأما الثاني فلأنه لم يقع التعرض فيه لكون القصاص غير موروث من المقتول عند إمامنا الأعظم رحمه الله ، بل سيق الكلام فيه على وجه يشعر بكونه موروثا بالاتفاق ; ألا يرى إلى قوله في خاتمته والقصاص ليس بمال فلا يتعلق به لكنه موروث ( قوله أما الخطأ فموجبه المال وحق الورثة يتعلق به فيعتبر من الثلث ) قال جمهور الشراح : فإن قيل : القاتل واحد من العاقلة فكيف جوز الوصية بجميع الثلث هاهنا حتى صح في نصيب القاتل أيضا مع أن الوصية لا تصح للقاتل ؟ قلنا : إنما جوز ذلك لأن المجروح لم يقل أوصيت لك بثلث الدية ، وإنما عفا عنه المال بعد سبب الوجوب فكان تبرعا مبتدأ وذلك جائز للقاتل ; ألا ترى أنه لو وهب له شيئا وسلم جاز انتهى كلامهم .

وأورد بعض الفضلاء على قولهم ألا يرى أنه لو وهب له شيئا وسلم جاز بأن قال : فيه بحث ، لأن الهبة في المرض في حكم الوصية على ما سيجيء في كتاب الوصية انتهى .

أقول : إن أراد أن الهبة في المرض في حكم الوصية من كل الوجوه فهو ممنوع ; ألا يرى أن الهبة عقد منجز والوصية في المرض عقد معلق بالموت كما صرحوا به ، وإن أراد أنها في حكم الوصية في بعض الوجوه ككونها معتبرة من الثلث ونحو ذلك فهو مسلم ، لكن لا يلزم منه أن لا تصح هبة المجروح للقاتل كعدم صحة وصيته له فلا يجدي قدحا فيما ذكره الشراح في تنوير جوابهم




الخدمات العلمية