الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وطلق ابن عمر رضي الله عنهما امرأته وهي حائض في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ( قال ) وقد روى هذا الحديث سالم بن عبد الله ويونس بن جبير عن ابن عمر يخالفون نافعا في شيء منه قالوا كلهم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق ولم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر ( قال ) وفي ذلك دليل على أن الطلاق يقع على الحائض لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالمراجعة إلا من لزمه الطلاق " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : الطلاق ينقسم ثلاثة أقسام : طلاق سنة ، وطلاق بدعة ، وطلاق لا سنة فيه ولا بدعة .

                                                                                                                                            [ القسم الأول في طلاق السنة ]

                                                                                                                                            فأما طلاق السنة فهو : طلاق المدخول بها في طهر لم تجامع فيه .

                                                                                                                                            [ القسم الثاني وهو طلاق البدعة ]

                                                                                                                                            وأما طلاق البدعة فطلاق اثنتين : الحائض والطاهر التي قد جومعت في طهرها أما الحائض فكان طلاقها بدعة : لأنها طلقت في زمان لا يحتسب به من عدتها وأما المجامعة في طهرها . فلإشكال أمرها هل علقت منه فلا يعتبر بالطهر وتعتد بوضع الحمل . أو لم تعلق منه فتعتد بالطهر . [ ص: 115 ] [ القسم الثالث في الطلاق الذي ليس فيه سنة ولا بدعة ]

                                                                                                                                            وأما التي لا سنة في طلاقها ولا بدعة فخمس : الصغيرة والمويسة والحامل وغير المدخول بها والمختلعة .

                                                                                                                                            أما الصغيرة والمويسة فلاعتدادهما بالشهور التي لا تختلف بحيض ولا طهر .

                                                                                                                                            وأما الحامل فلاعتدادها بوضع الحمل الذي لا يؤثر فيه حيض ولا طهر .

                                                                                                                                            وأما غير المدخول بها فلأنه لا عدة عليها فيؤثر فيها حيض أو طهر .

                                                                                                                                            وأما المختلعة فلأن خوفهما من ألا يقيما حدود الله يقتضي تعجيل الطلاق من غير اعتبار سنة ولا بدعة .

                                                                                                                                            وإذا انقسم الطلاق على هذه الأقسام الثلاثة فقسمان منهما مجمع على وقوع الطلاق فيهما :

                                                                                                                                            أحدهما : طلاق السنة . مجمع على وقوعه .

                                                                                                                                            والثاني : ما لا سنة فيه ولا بدعة مجمع على وقوعه .

                                                                                                                                            والثالث : مختلف فيه وهو طلاق البدعة في حيض أو في طهر مجامع فيه . فهو محظور محرم بوفاق . واختلف في وقوعه مع تحريمه . فمذهبنا أنه واقع وإن كان محرما . وهو قول الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء .

                                                                                                                                            وحكي عن ابن علية والسبعة وبعض أهل الظاهر أنه غير واقع استدلالا بقول الله تعالى : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق 11 ] فاقتضى ذلك الفرق بين المأمور به والمنهي عنه في الوقوع كما اقتضى الفرق بينهما في التحريم .

                                                                                                                                            وبما روى ابن جريح عن أبى الزبير : قال : سأل عبد الرحمن بن أيمن عبد الله بن عمر وأبو الزبير يسمع عن رجل طلق زوجته وهي حائض فقال ابن عمر طلقت زوجتي وهي حائض فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فردها علي ولم يره شيئا وهذا نص في أنه لا يقع . ولو وقع لرآه شيئا .

                                                                                                                                            ولأن النكاح قد يحرم في وقت وهو في العدة والإحرام كما يحرم الطلاق في وقت وهو الحيض والطهر المجامع فيه .

                                                                                                                                            ثم كان عقد النكاح في وقت تحريمه باطلا . وجب أن يكون الطلاق بمثابة إذا وقع في وقت تحريمه . [ ص: 116 ] ولأنه لو وكل وكيلا في طلاق زوجته في الطهر وطلقها في الحيض لم تطلق : لأجل مخالفته ، وإيقاع الطلاق في غير وقته مخالفة لله تعالى في وقت الطلاق أولى ألا تقع بها طلاق ، وهذا خطأ .

                                                                                                                                            ودليلنا ما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر . أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس . فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء .

                                                                                                                                            فموضع الدليل منه أن أمره بالرجعة موجب لوقوع الطلاق ، لأن الرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق .

                                                                                                                                            فإن قيل أمره بالرجعة إنما هو أمر بردها إليه . قلنا : هذا تأويل فاسد من وجوه : أحدها : أن الرجعة بعد ذكر الطلاق تنصرف إلى رجعة الطلاق .

                                                                                                                                            والثاني : أنه ما ذكر إخراجها فيؤمر بردها ، وإنما ذكر الطلاق فكان منصرفا إلى رجعتها .

                                                                                                                                            والثالث : أن المسلمين جعلوا طلاق ابن عمر هذا أصلا في طلاق الرجعة وحكم العدة ووقوع الطلاق في الحيض ولم يتأولوا هذا التأويل فبطل بالإجماع .

                                                                                                                                            وروى الحسن عن عبد الله بن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض طلقة وأردت أن أتبعها طلقتين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : راجعها . قلت أرأيت لو طلقتها ثلاثا ؟ قال كنت قد أبنت زوجتك وعصيت ربك .

                                                                                                                                            وهذا نص في وقوع الطلاق في الحيض لا يتوجه عليه ذلك التأويل المعلول ومن القياس أنه طلاق مكلف صادف ملكا فوجب أن ينعقد كالطاهر .

                                                                                                                                            ولأن رفع الطلاق تخفيف ووقوعه تغليظ ، لأن طلاق المجنون لا يقع تخفيفا وطلاق السكران يقع تغليظا ؛ لأن المجنون ليس بعاص والسكران عاص .

                                                                                                                                            فكان المطلق في الحيض أولى بوقوع الطلاق تغليظا من رفعه عنه تخفيفا ، ولأن النهي إذا كان لمعنى ولا يعود إلى المنهي عنه لم يكن النهي موجبا لفساد ما نهي عنه ، كالنهي عن البيع عند نداء الجمعة لا يوجب فساد البيع . [ ص: 117 ] كذلك النهي عن الطلاق في الحيض ، إنما هو لأجل تطويل العدة لا لأجل الحيض ، فلم يمنع النهي عنه من وقوع الطلاق فيه .

                                                                                                                                            فأما استدلاله بالآية فنصها يوجب وقوع الطلاق في العدة ، ودليلها يقتضي ألا يقع في العدة ، لكن إذا عارض دليل الخطاب بعد صرفه عن موجبه ، وقد عارضه من حديث ابن عمر ما يوجب صرفه عن موجبه .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بقول ابن عمر : فردها علي ولم يره شيئا فضعيف لتفرد أبي الزبير به ومخالفة جميع الرواة فيه مع أن قوله لم يره شيئا يحتمل أنه لم يره إثما ، ولم يره شيئا لا يقدر على استدراكه ، لأنه قد بين أنه يستدرك بالرجعة .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بالنكاح ، فالفرق بين النكاح حيث بطل بعقده في حال التحريم وبين الطلاق حيث أمره بإيقاعه في حال التحريم ، أن الطلاق أوسع حكما وأقوى نفوذا من النكاح لوقوع الطلاق مباشرة وسراية ، ومعجلا ومؤجلا .

                                                                                                                                            وعلى غرر لا يصح النكاح على مثله ، فجاز أن يقع في وقت تحريمه وإن لم يصح عقد النكاح في وقت تحريمه .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بالوكيل فالجواب عنه أن الوكيل إذا خالف الإذن زالت وكالته وليس يرجع بعد زوالها إلى ملك فرد تصرفه .

                                                                                                                                            والزوج إذا خالف رجع بعد المخالفة إلى ملك فجاز تصرفه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية