الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الإكراه بإدخال الضرر والأذى البين على المكره ، وذلك قد يكون من أحد سبعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : القتل ، وهو أعظم ما يدخل به الضرر على النفس ، فإذا هدره في نفسه كان إكراها ، فإن هدر به في غيره ، فلا يخلو حال الغير من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون ممن بينهم بعضية كالوالدين وإن علوا ، والمولودين وإن سفلوا ، فيكون التهديد بقتلهم إكراها لأن البعضية تقتضي التمازج في الأحكام .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون من غير ذي رحم محرم ، إما أجنبيا أو ذا نسب لا يكون محرما كبني الأعمام وبني الأخوال ، فلا يكون تهديده بقتلهم إكراها ، لأن بين جميع الناس تناسب من بعيد .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون ذا رحم محرم كالإخوة والأخوات وبنيهما ، والأعمام والعمات دون بنيها والأخوال والخالات دون بنيها ، فهل يكون التهديد بقتلهم إكراها أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يكون إكراها لثبوت المحرم كالوالدين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يكون إكراها لعدم البعضية كالأبعدين ، فهذا حكم التهديد بالقتل .

                                                                                                                                            [ ص: 233 ] والثاني : الجرح ، إما بقطع طرف أو إنهار دم ، فهو إكراه لما فيه من إدخال ألم ، وأنه ربما سرى إلى النفس .

                                                                                                                                            والثالث : الضرب ، فيكون إكراها لألمه وضرره ، إلا أن يكون في قوم من أهل الشطارة والصعلكة الذين يتباهون في احتمال الضرب ، ويتفاخرون في الصبر عليه فلا يكون إكراها في أمثالهم .

                                                                                                                                            والرابع : الحبس ، فلا يخلو أمره فيه من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يهدده بطول الحبس فيكون إكراها ، لدخول الضرر به .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون قصير الزمان كاليوم ونحوه فلا يكون إكراها لقربه وقلة ضرره .

                                                                                                                                            والثالث : أن لا يعلم طوله ولا قصره فيكون إكراها ، لأن الظاهر في المحبوس على شيء أنه لا يطيق إلا بعد فعله . وحكم القيد ، إذا هدر به كحكم الحبس ، لأنه أحد المانعين في التصرف .

                                                                                                                                            والخامس : أخذ المال ، فلا يخلو من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون كثيرا يؤثر أخذه في حاله فيكون إكراها .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون قليلا ، فلا يؤثر في حاله فلا يكون إكراها .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون كثيرا إلا أنه لا يؤثر في حاله لسعة ماله ، ففي كونه مكرها بأخذه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يكون مكرها بقدر المال المنفوس به .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يكون إكراها اعتبارا بماله الذي لا يؤثر المأخوذ فيه .

                                                                                                                                            والسادس : النفي عن بلده ، فننظر حاله ، فإن كان ذا ولد وأهل ومال ولا يقدر على نقل أهله وماله معه كان إكراها ، وإن قدر على نقلهما ومكن منهما ففي كونه إكراها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يكون إكراها لتساوي البلاد كلها في مقامه فيما شاء منها .

                                                                                                                                            والثاني : يكون إكراها ، لأن النفي عقوبة كالحد ، ولأن في تغريبه عن وطنه مشقة لاحقة به .

                                                                                                                                            والسابع : السب والاستخفاف ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون من رعاع الناس وسفلتهم الذين لا يتناكرون ذلك فيما بينهم ولا يغض لهم جاه ، فلا يكون ذلك إكراها في أمثالهم .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون من الصيانات وذوي المروءات ففيه وجهان :

                                                                                                                                            [ ص: 234 ] أحدهما : يكون ذلك إكراها في أمثالهم ، لما يلحقهم من وهن الجاه ، وألم الغلب .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يكون إكراها ، لأن الناس قد علموا أنهم مظلومون به ، والأصح عندي من إطلاق هذين الوجهين أن ينظر حال الإنسان فإن كان من أهل الدنيا وطالبي الرتب فيها ، كان ذلك إكراها في مثله : لأنه ينقص ذلك من جاهه بين نظرائه ، وإن كان من أهل الآخرة وذوي الزهادة في الدنيا ، لم يكن ذلك إكراها في مثله ، لأنه لا ينقص ذلك من جاهه بين نظرائه ، بل ربما كان إعلاء لذكره مع كثرة صوابه ، هذا مالك بن أنس ، جرد للسياط فيما كان يفتي به من سقوط يمين المكره ، فكأنما كان ذلك حليا حلي به في الناس ، فهذا حكم الإكراه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية