الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب المدبر

( قال ) رضي الله عنه اعلم بأن التدبير عبارة عن العتق الموقع في المملوك بعد موت المالك عن دبر منه مأخوذ من { قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أم الولد فهي معتقة عن دبر منه } وصورة المدبر أن يتعلق عتقه بمطلق موت المولى كما يتعلق عتق أم الولد به ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه إن المدبر يعتق من جميع المال كأم الولد وهو قول حماد رضي الله تعالى عنه وإحدى الروايتين عن إبراهيم رحمه الله تعالى ولكنا لا نأخذ بهذا وإنما نأخذ بقول علي وسعيد بن المسيب والحسن وشريح وابن سيرين رضوان الله عليهم أجمعين أنه يعتق من الثلث لحديث ابن عمر رضي الله عنهما { أن النبي جعل المدبر [ ص: 179 ] من الثلث } ولأن التدبير خلافة بعد الموت فيتقدر حقه بعد الموت وحق المولى بعد الموت في ثلث ماله فيعتبر خلافته في هذا المقدار فيكون من ثلثه كسائر الوصايا ، وفي أم الولد إنما يعتق من جميع المال لسقوط قيمة ماليتها على ما قررنا أن الإحراز بعد الاستيلاد لقصد ملك المتعة لا لقصد المالية وبدون الإحراز لا تثبت المالية والتقوم وهذا المعنى لا يتقرر بالتدبير فإن التدبير ليس بقصد إلى الإحراز لملك المتعة فيبقى الإحراز بعده للتمول ، وإذا بقي مالا متقوما كان معتبرا من ثلثه وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى أنه لا يجوز بيع المدبر وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بيعه عطاء { لحديث أن رجلا دبر عبدا له ثم احتاج إلى ثمنه فباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يقال لهنعيم بن النحام بثلثمائة درهم } وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها دبرت أمة لها فسحرتها وعلمت بذلك فقالت ما حملك على ما صنعت فقالت حبي العتاق فباعتها من أسوإ الناس ملكة والمعنى فيه أن التدبير تعليق العتق بالشرط وذلك لا يمنع جواز البيع كما لو علقه بشرط آخر من دخول الدار أو مجيء رأس الشهر ، والتدبير وصية حتى يعتبر من ثلث المال بعد الموت والوصية لا تمنع الموصي من التصرف بالبيع وغيره كما لو أوصى برقبته لإنسان ، وهذا لأن الوصية إيجاب بعد الموت فتمنع الإضافة بثبوت حكم الوجوب في الحال .

( وحجتنا ) حديث نافع عن ابن عمر رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يباع المدبر ولا يوهب وهو حر من الثلث } وتأويل حديث عطاء ما نقل عن أبي جعفر محمد بن علي رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إنما باع خدمة المدبر لا رقبته } يعني به أنه أجره والإجارة تسمى بيعا بلغة أهل المدينة أو يحتمل أنه كان مدبرا مقيدا أو كان في وقت كان بيع الحر جائزا على ما روي { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه باع رجلا يقال له سرق في دينه } ثم انتسخ ذلك الحكم ، وعن زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله تعالى عنهما قالا لا يباع المدبر وما نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها تعالى عنها محمول على المدبر المقيد ليكون جمعا بينهما والمعنى فيه أنه مملوك تعلق عتقه بمطلق موت سيده فلا يجوز بيعه كأم الولد ، ودليل الوصف أن التعلق حكم التعليق وإنما يتعلق بما به علق السيد وهو إنما علقه بمطلق الموت وتأثيره أن الموت كائن لا محالة وهو سبب للخلافة ألا ترى أن الوارث يخلف المورث في تركته بعد موته فهو بهذا التعليق يكون مثبتا للمملوك في الحال الخلافة في رقبته بعد موته فيكون إيجابا في ثاني الحال باعتبار وجود سببه على وجه يصير محجورا [ ص: 180 ] عن إبطاله كما أن الموت لما كان موجبا الخلافة للوارث في تركته وسببه المرض ثبت نوع حق لهم بهذا السبب على وجه يصير المريض محجورا عن التبرع ، وهذه الخلافة في العتق الذي لا يحتمل الإبطال بعد ثبوته ، فيتقوى هذا السبب من وجهين أحدهما : أن المتعلق به مما لا يحتمل الإبطال ، والثاني : أن التعليق بما هو كائن لا محالة وهو موجب للخلافة ، ولهذه القوة قلنا لا يحتمل الإبطال والفسخ بالرجوع عنه بخلاف ما يقوله الشافعي رحمه الله تعالى في بعض أقاويله وهو ضعيف جدا بأن تعليق العتق بسائر الشروط يحتمل الفسخ فهذا الشرط أولى ولهذه القوة يجب حق الحرية له في الحال على وجه يمنع بيعه ويثبت استحقاق الولاء للمولى على وجه لا يجوز إبطاله بخلاف التعليق بسائر الشروط فإن دخول الدار ونحو ذلك ليس بكائن لا محالة والتدبير المقيد وهو قوله إن مت من مرضي هذا ليس بكائن لا محالة أيضا والتعليق بمجيء رأس الشهر فإن ذلك ليس بسبب موجب للخلافة .

وكذلك الوصية برقبته لغيره فإن ذلك تمليك يحتمل الإبطال بعد ثبوته فلا يجب به الحق بنفسه ، وتقرر بهذا التحقيق أن المدبر في معنى أم الولد إلا أن هناك معنيين تعلق بأحدهما وجوب حق الحرية في الحال وبالآخر سقوط المالية والتقوم ثم وجد أحد المعنيين ههنا دون الآخر فيتعدى بذلك المعنى حكم ثبوت حق الحرية إلى المدبر ولا يتعدى حكم سقوط المالية والتقوم لانعدام معناه هنا فلهذا كان معتبرا من الثلث ، على هذا نقول ولد المدبرة يكون مدبرا ; لأنه وجب حق الحرية لها في الحال فيسري إلى الولد كالاستيلاد وهو دليلنا على الشافعي ، وبعض أصحابه يمنعون سرايته إلى الولد وهو ضعيف جدا ; لأنه مخالف لقول الصحابة والتابعين وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه ولد المدبرة مثل أمه وخوصم إلى عثمان رضي الله عنه في أولاد مدبرة فقضى بأن ما ولدته قبل التدبير عبد يباع وما ولدته بعد التدبير فهو مثلها لا يباع وعن شريح وسعيد بن المسيب وقتادة وجماعة منهم رضوان الله عليهم أجمعين أنهم قالوا : ولد المدبرة مدبر .

إذا عرفنا هذا فنقول .

التالي السابق


الخدمات العلمية