الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        العامة والعنف

        عندما تنقم العامة على أحد المسئولين فإنها تنتقم منه عاجلا أو آجلا وقد تضطر السلطة تحت ضغط الشارع إلى تنفيذ ما يريده العوام فتقيل الموظف وتسجنه في بعض الحالات كما حدث ذلك لشحنة بغداد فخر الدين أيبك الأرنباي فقد قتل العوام أحد أتباعه ويدعى ابن محاسن وسحبوه وهو حي ثم ألقوه في دجلة ثم أخرجوه وأحرقوه فقصدهم الأنباري في عسكره فوثبوا عليه فما كان منه إلا أن أوقع فيهم وجرد أصحابه السلاح وقتلوا من العامة جماعة وجرحوا آخرين فهاج البلد وماج وأغلق الناس دكاكينهم وأقبلوا بقتلاهم في مظاهرة كبيرة إلى باب البدرية الشريفة فأقيل الشحنة وسجن. [1] [ ص: 105 ] ولكن العامة لم تكتف بذلك بل ثارت على المسالحة بباب النوبي الشريف وقتلت جماعة منهم وهنا لم تقف السلطة مكتوفة الأيدي بل أحضرت اثنين ممن قتلوا ابن محاسن وصلبتهما على البدرية فارتفع العوام وكفوا عن تطاولهم [2] .

        وكانت قوة العامة مدعاة لمحاولة كسبها من قبل بعض المسئولين لأغراضهم الخاصة ففي سنة 654 هـ وشى الوزير ابن العلقمي بمجاهد الدين الدواتدار وأعلم الخليفة بما يرد الدواتدار من خلعه فما كان من مجاهد الدين الدواتدار إلا أن جمع زنود بغداد وأوباشها حوله فكانوا يلازمونه ليل نهار حتى خشي الخليفة على نفسه وجمع جيشا لدفع خطره وأخيرا كذب الخليفة أمام الملأ ما نسب إلى الدواتدار [3] . وهكذا استطاع الدواتدار باستناده إلى الغوغاء أن يحتفظ بمركزه ويهزم الوزير في هـذه المعركة.

        وعندما تتعلق العامة بحاكم فإنها تدافع عنه وتنتقم له من أعدائه فقد انتقموا لعلاء الدين صاحب الديوان من عدد من أعدائه ففي سنة 677 هـ عذبوا ابن بقا الشربدار لأنه طعن في الصاحب ثم قطعوا رأسه ووضعوا مكانه رأس معز بأسلحته وطيف به وأحرق العوام جثته ورفع رأسه على خشبة وطيف به [4] .

        إن الوحشية تتجلى تماما في غضبة العامة فهي لا تملك نفسها عند الغضب ولا تضبط سلوكها عندما تهيج وكذلك مثلت العامة بجثة مجد الملك العدو [ ص: 106 ] اللدود للصاحب علاء الدين وذلك بعد قتله من قبل الصاحب بل إن الخربندية ارتكبوا ما هـو أفظع من ذلك إذ شووا وأكلوا منه وشربوا الخمر في قطعة من رأسه [5] . وكذلك انتقم العوام من أتباع مجد الملك بقتلهم وإحراق جثثهم [6] .

        إن للعوام حقدا لا يزيله إلا الانتقام الشنيع وكثيرا ما تواتيهم الظروف للانتقام من المسئولين الذين آذوهم فقد حدث سنة 575 هـ أن أقيل ابن العطار من وزارته وحوسب وقتل ولم يجرؤ أهله على تشييعه فأخرجوه على ظهر حمال سرا فغمز به بعض العامة الناس فثار به العامة وألقوه على رأس الحمال ومزقوا كفنه وجردوه ومثلوا به تمثيلا قبيحا وسحبوه في البلد حتى أوصلوه إلى المدينة فروموه فيها ثم أخرجوه وكانوا يضعون في يده عودا ويقولون: " يا مولانا ظهير الدين وقع لنا " [7] . ومن العجب أن ابن العطار كان حسن السيرة فيهم [8] . فما سبب هـذه الأفعال الشنيعة منه ؟ قد يكون السبب اختلاف الناصر عليه وتعلق العامة بالناصر خاصة في بداية حكمه وقد يكون الوزير قد أساء لأحدهم فقام هـذا بتهييج العامة وما أسرع ما تهتاج العامة وتنفعل وللرأي الثاني ما يدعمه إذ ذكر ابن الطقطقي أن بعض الأتراك كان قد عسر حماما فكانت مجراة مياهه تؤذي أحد الجيران فتقدم هـذا الجار بشكوى إلى الوزير إلا أنه نهره بقوله : إن لم تسكت جعلت رأسك في المجراة. فلما سحب العوام جثة ابن العطار وقع منهم في تلك الجراة [ ص: 107 ] فتعجب الناس من ذلك [9] وتعجب العوام هـنا يشير إلى أن قصة الشكوى كانت منتشرة بينهم ومؤثرة إذ لا يزالوا يذكرونها ولكن هـل تكفي هـذه الأسباب حتى لو اجتمعت لتبرير مثل هـذه الأعمال الشنيعة ثم ألا يكفي الموت لإطفاء الحقد والغضب ولكنها العوام عندما تغضب فتنتقم.

        إن الحالات التي استخدم العوام فيها العنف مع المسئولين كثيرة جدا فعندما مات نائب الشرطة بباب النوبي الشريف وكان ظالما تكرهه العامة أعلنت لعنه وهمت بسحبه [10] ، وقد هـجم العوام على دار جمال الدين على ابن البوري من أعيان المتصرفين زمن الناصر لدين الله ونهبوها على أثر وفاة الخليفة الناصر [11] .

        وعندما بويع المستعصم بالخلافة أمر وزيره بإسقاط المكوس والتقسيطات والمؤن التي أحدثها عمال السوء فلما أراد حاجب باب ا لنوبي العودة إلى داره صحبه الوزير خوفا عليه من العامة؛ لأنه كان يتولى أخذ المؤن وأرسل الأمير فلك الدين محمد سنقر لحراسة داره من العوام [12] .

        وكثيرا ما كان يثب العوام ببعض المسئولين فيقتلونهم ففي سنة 597 هـ وثب أهل البصرة على حامي محلتهم المعروف باب الضراب فقتلوه وقتلوا أيضا أربعة نفر وسحبوهم وألقوهم في دجلة. وكذلك فعل أهل سوق الثلاثاء بحاميهم وكذلك أهل الجعفرية [13] . لقد حدث قتل حماة [ ص: 108 ] المحلات في وقت متقارب وهذا يشير إلى هـياج العامة ضد السلطة نفسها وليس ضد حامي المحلة بذاته. وفي سنة 653 هـ وثب أهل النيل على الشحنة بها فقتلوه؛ لأنه أساء السيرة فيهم ولم تأبه السلطة باحتجاجهم [14]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية