الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي [الجزء الثاني]

        الدكتور / أكرم ضياء العمري

        الفصل الثالث

        المجتمع والسلطة في الأندلس

        في عصر التدهور والسقوط

        يستحق الوجود الإسلامي في الأندلس إلى دراسة مستقلة للقيم الإسلامية التي طبعت ثقافته وسلوكه..

        ما مدى تأثير تلك القيم في وحدة الناس وجلهم من العرب والبربر ومسلمي الأسبان ؟ وما أثرها في المواقف التي اتخذوها أمام الأخطار والتي عصفت بهم ؟ وما مدى فاعلية الرأي العام في الأندلس وما أثره على السلطة وقراراتها في الأحداث الخطيرة ؟ وماذا كان رد فعلهم تجاه الغزو الثقافي ومحاولات التنصير القسرية ؟ ما أثر العلماء في توجيه المجتمع وتثقيفه ؟ وهل عبروا عن العدالة والمساواة والتسامح ؟ وما أثرهم في أوقات الخطر عندما تهدد كيان الدولة والمجتمع هـناك ؟ وما مدى التزام الملوك والأمراء والقادة بقيم الإسلام؟

        رغم ما تعرضت له قيم المجتمع الإسلامي في المرحلة الأخيرة من الوجود الإسلامي في الأندلس إلى الانحلال فضعفت الحمية الدينية وجنح الناس [ ص: 113 ] إلى الترف واللهو وغلبت عليهم النزعة الفردية والرغبة في تحقيق المصالح الخاصة وتغليبها على مصلحة الجماعة فقد كانت روح الجهاد والمقاومة والتضحية البالغة وقد ضغط الرأي العام بشدة من أجل القتال ذودا عن الشرف والكرامة ومصالح الأمة. وقد بلغ الصراع على السلطة أوجه في عصر دول الطوائف وقد اشتد النزاع بين المعتمد بن عباد حاكم اشبيلية وعبد الله بن بلقين حاكم غرناطة حيث استعان الأخير بألفونسو لحمايته مقابل دفع جزية سنوية له بالدنانير الذهبية.. وبعد برهة وجيزة اتفق المعتمد بن عباد مع الفونسو على أن يحتل الأول غرناطة ويدفع لألفونسو ما في القلعة الحمراء من أموال وذخائر ونفائس وسلاح وفوق ذلك جزية قدرها خمسون ألف دينار ذهب كل عام [1] وقد ثاب المعتمد بن عباد إلى رشده عندما واجه خطر الأذفونش وهو يتقدم بجيوشه نحو أشبيلية ولم يجد أمامه سوى اللجوء إلى يوسف بن تاشفين أمير المرابطين بالمغرب فلما حذره البعض من ذهاب ملكه قال : " لئن أرعى الجمال عند ابن تاشفين خير لي من أن أرعى الخنازير عند الأذفوش " [2]

        وقد تكررت هـذه المواقف خلال الصراع بين سليمان بن هـود حاكم سرقسطة وبين المأمون بن ذي النون حيث استعان الاثنان بفرناندو ملك قشتالة وتسابقا في البذل والعطاء والتنازل عن المدن والحصون والقلاع كسبا لوده [3]

        وقد جر الحرص على السلطة إلى الاقتتال بين أفراد الأسرة الحاكمة والاستعانة بالقوات النصرانية مرارا فقد قسم سليمان بن هـود أعمال مملكته [ ص: 114 ] بين أبنائه الخمسة ولكن ابنه أحمد صاحب سرقسطة احتال على ثلاثة من إخوته فسجنهم وسمل أعينهم وانتزع ما كان في أيديهم من أرض ومدن !! وقد نفر أهل الإمارة منه بسبب قسوته وانضموا إلى أخيه يوسف صاحب لاردة ومنهم أهل تطيلة التي أصابتها مجاعة شديدة ولما حاول يوسف إرسال المؤن إليها كان لا بد من المرور بأراضي أخيه أحمد أو بأراضي مملكة نافارا.. وكان يعلم أن أخاه لم يكن ليسمح له بنجدة تطلية التي تمردت عليه فاتفق مع غرسيه ملك نافارا على مرور المؤن بأرضه مقابل أموال وفيرة فلما علم احمد بهذا الاتفاق اتصل بغرسيه وعرض عليه ضعف ما بذله أخوه وأن يتخلى له عن القافلة وحمولتها وسلاحها إذا منع غرسيه القافلة من الوصول إلى تطيلة وقضى على حراسها وجنح غرسيه إلى هـذا الإغراء [4]

        ومن أمثلة الصراع بين أفراد الأسرة الحاكمة ما وقع بين أبي عبد الله الصغير آخر أمراء غرناطة وبين أبيه حيث وقع القتال بين الاثنين داخل غرناطة مما ألحق الخراب بالمدينة وكذلك بين أبي عبد الله الصغير وعمه الزغل حتى تدخل العلماء والفقهاء ووجوه الناس فأصلحوا بينهما على أن يتقاسما مملكة غرناطة. كل ذلك كان يحدث وفرناندو – ملك قشتالة – ينتظر الفرصة لاحتلال غرناطة وقد سنحت في أوائل عام 1486 حيث تم أسر أبي عبد الله الصغير فوقع سرا على شروط تسليم غرناطة ومن الغريب أن هـذه الأحداث الخطيرة لم تنسه أن يضمن الشروط أن يتمكن الأسبان من إخضاع عمه الزغل !! [5] وفي 21 محرم سنة 897 هـ الموافق 25 تشرين ثاني [ ص: 115 ] سنة 1491م تم التوقيع على معاهدة تسليم غرناطة [6] التي مضت مادتها الأولى على اعتبار أبي عبد الله الصغير وسائر قادته وجميع سكان غرناطة وضواحيها كخدم وأتباع للملكين الكاثوليكيين ضون فرديناند وضونيا إيسابيلا [7] وقد وقع أبو عبد الله الصغير معاهدة سرية تضمنت حقوقه الخاصة وحقوق عائلته والأراضي والامتيازات الأخرى [8] ومن الواضح أن المعاهدتين العلنية والسرية ببنودهما التي تتسم بروح التسامح الديني والحرية للمسلمين لم تكونا إلا مظهرا زائفا لم يقصد الملكان الكاثوليكيان من ورائه سوى تسلم غرناطة بأية طريقة توفر عليهما القتال وهكذا سيتم نقض الاتفاقيتين غدرا بعد برهة وجيزة من تسلم غرناطة ويفرض على المسلمين التنصير القسري او التهجير القسري [9] وكانت بداية الغدر في اليوم الثاني لدخول الملكين الكاثوليكيين غرناطة إذ صدر الأمر بإحراق مليون وخمسمائة ألف كتاب ديني [10]

        ومن أمثلة الصراع بين الأسر الحاكمة ما جرى بين محمد بن يوسف أمير مرسية وأبي عبد الله محمد الأمير الموحدي في بلنسيه حتى لجأ الأخير إلى ملك أراغون ( خايم الأول ) يطلب عونه ويؤدي له الجزية ويكون تابعا له مما أدى إلى استياء أهل بلنسيه منه وخلعه وطرده فتقدم ملك أركون واحتل بلنسية [11] . [ ص: 116 ] ومن أفظع المآسي التي وقعت للمسلمين ما فعله النورمان بأهل بربشتر عام 456 هـ فقد هـاجمها النورمان والفرنسيون بقوة كبيرة وقاتل المسلمون قتالا مجيدا ولكن المدينة اقتحمت حيث لم ينجدها أحد من أمراء المسلمين ولجأ أهلها إلى القصبة داخلها وقد عزموا على القتال حتى آخر رمق لكن أحد الخونة دل النورمان على مجرى الماء فسدوه واضطر المجاهدون للتسليم على أن يسمح لهم بالخروج من المدينة مع عائلاتهم دون أموالهم فلما استسلموا غدر بهم النورمان وقتلوا من رجالهم ستة آلاف وسبوا نساءهم ثم أمروهم بالخروج من المدينة فلما بلغوا بابها أعادوهم إليها وتقاسموهم يقول ابن حبان – مؤرخ الأندلس المعروف - : " ولما برز جميع من خرج من المدينة بفناء بابها بعد من خفف منهم بالقتل وهلك في الزحمة ظلوا قياما ذاهلين منتظرين نزول القضاء فيهم نودي فيهم بأن يرجع كل ذي دار إلى داره ووطنه وأهله وأزعجوا لذلك فنالهم من الازدحام قريبا مما نالهم في الخروج عنها ولما استقروا بالدور مع عيالهم وذراريهم اقتسمهم المشركون بأمر سلطانهم فكل من صارت في حصته دار حازها وحاز ما فيها من أهل وولد ومال فيحكم كل علج منهم فيمن سلط عليه من أرباب الدور بحسب ما يبتليه الله به منهم يأخذ كل ما أظهره إليه ويقرره عليه فيما أخفى ويعذبه أشد العذاب وربما زهقت نفس المؤمن من دون ذلك فاستراح وربما أنذره أجله إلى أسوأ من مقامه بذلك فإن عداة الله كانوا يومئذ يتولعون بهتك حرم أسراهم وبناتهم بحضرتهم وعلى أعينهم إبلاغا في نكايتهم يغشون الثيب ويفتضون البكر وزوج [ ص: 117 ] تلك وأبو هـذه مقيد أسره ناظر إلى سخينة عينه فعينه تدمع ونفسه تتقطع ومن لم يرض منهم أن يفعل ذلك بنفسه أعطي من حوله من غلمانه يعبثون فيهم عبثته فبلغ الكفرة منهم يومئذ مالا تلحقه الصفة على الحقيقة والحول والقوة لله العظيم [12]

        ثم تحدث ابن حبان عن عشرات ألوف السبايا اللاتي وقعن في قبضة هـؤلاء الوحوش ووصلت أنباء هـذه الفظائع إلى قرطبة في أوائل رمضان من عام 456 هـ - وكان ابن حبان مقيما فيها – فتأثرت النفوس لذلك أشد التأثر ولكن الحكام المسلمين جميعا كانوا عاجزين عن فعل شيء. [13]

        وقد حاولت الكنيسة الكاثوليكية نشر النصرانية في أوساط المسلمين سلميا فلما فشلت في إقناعهم اتخذت سياسية القسر والعنف والتعذيب والقتل حرقا في سراديب محاكم التفتيش ومن الأساليب التي لجأت إليها أخذ أطفال المسلمين الذين تتراوح أعمارهم بين 5 – 12 سنة ليربوا في المعاهد النصرانية ويتم غسل أدمغتهم من عقائدهم وزرع التعصب المقيت ضد ذويهم واستعمالهم للتجسس عند عودتهم إلى أهاليهم [14]

        وكذلك فرضت ضرائب ثقيلة على المسلمين تستهدف إفقارهم وتم تجريدهم من ممتلكاتهم وعزلوا في أحياء سكنية خاصة بهم لتسهيل السيطرة عليهم وهدمت حماماتهم العامة وقد تم إحراق 700 شخص من قبل محاكم التفتيش خلال ثماني سنوات فقط من سقوط غرناطة كما حكم بالإعدام على ألف ومائتي شخص من أهل طليطلة من قبل محاكم التفتيش في جلسة واحدة بسبب رفض التنصر [15] [ ص: 118 ]

        وقد بلغ التعصب ضد المسلمين إلى حد اعتبار تكلمهم بالعربية أو صلاتهم باتجاه القبلة ( مكة ) جريمة كبرى عقوبتها الموت حرقا كما أجبرت الفتيات المسلمات على الاقتران القسري برجال من النصارى.

        وقد أدت هـذه الأساليب الغادرة إلى انتفاضة الرأي العام عدة مرات في البيازين عام 1455 م والبشرات عام 1501 م في غرناطة ثم تعاقبت الثورات في العديد من المدن الإسلامية وبالطبع فقد تم القضاء على حركات المقاومة حينا صلحا بالتأكيد على التزام الأسبان بالمعاهدات التي تحفظ حقوق المسلمين وأحيانا بالعنف والقوة وفي كل الأحوال فإن إخماد الثورات عام 1502 م أدى إلى زيادة اضطهاد الأسبان للمسلمين..

        وقد حمل التعصب الديني النصراني على إحراق المساجد أو تحويلها إلى كنائس وإراقة الدماء بما فيها دماء النساء والأطفال رغم الاتفاقيات المعقودة فضلا عن بروز سياسة التهجير القسري [16] ونتيجة العنف والقسوة التناهية والتهديد بالقتل والطرد وتنفيذ ذلك بنطاق واسع تظاهر معظم المسلمين بقبول التنصير واستمروا في ممارسة الشعائر الإسلامية سرا معرضين أنفسهم للخطر الجسيم حين يكتشف سرهم في حين هـاجرت أعداد كبيرة إلى المغرب ومارست الجهاد ضد السواحل الأسبانية عقودا طويلة وهي تأمل باستعادة الأندلس بمساعدة القوى الإسلامية وخاصة العثمانيين ومماليك مصر..

        وقد ازدادت أعداد المهاجرين خلال حكم فيليب الثاني لأسبانيا (1527– 1598م) [ ص: 119 ] بسبب السياسة الدينية المتعصبة التي انتهجها وفرض بموجبها على الموريسكيين المسلمين ( المتنصرين ) عددا من القيود الجديدة بما في ذلك تجريدهم من السلاح المرخص وبقاء بيوتهم مفتوحة الأبواب وإلزام نسائهم بالسفور في الطرق العامة [17] فواجه المسلمون هـذه القرارات بالمقاومة والثورة في البشرات وغرناطة عام 1568 م بعد محاولة وفود المسلمين لإقناع الأسبان بالتخلي عن سياستهم تجاههم وقبل الموعد المضروب لتتخلى الموريسيكيات عن ألبستهن الحريرية العربية قبيل نهاية شهر كانون الأول سنة 1567 م ولكن الوفود لم تلق سوى الإهانة وبدأ تطبيق القوانين الجديدة.. فاندلعت ثورة المسلمين عام 1569 م بقيادة فرج بن فرج من أسرة بني سراج المعروفة وكان يمتهن الصياغة وقد جند قرابة ثمانية آلاف شخص مما يدل على استمرار روح المقاومة في الأمة رغم مرور 77 سنة على سقوط غرناطة وما أعقبه من محاولات عنيفة لتغيير هـويتها العربية الإسلامية... وقد قطعت الثلوج الطرق على أنصار الحركة خارج غرناطة مما أدى إلى لجوء الثوار إلى البشرات حيث انتخبوا محمد بن أمية الأموي ملكا الذي شن هـجمات عديدة على الأسبان حتى أرعبهم وطلبوا النجدات من الإيطاليين ولم يتم القضاء على هـذه الثورات الإسلامية إلا بعد معارك عنيفة وتضحيات جسيمة [18] وقد أدت هـذه الأحداث إلى تزايد تهجير المسلمين من غرناطة وتوطين جماعات نصرانية مكانهم خلال الفترة من 1571 – 1687 م وكان صدر أمر بالتهجير الجماعي للموريكسيين منذ عام 1523 م

        وعندما عبر المورسكيون إلى المغرب واستقروا في بعض المدن كانوا [ ص: 120 ] يحملون تأثيرات المجتمع الأسباني الذي أحاط بهم من كل مكان وحاول فرض دينه وثقافته عليهم بالقوة والعنف الشديد بإدارة محاكم التفتيش الكنيسة. ولا شك أن منظومة القيم الإسلامية اختلت رغم روح المقاومة الشديدة التي تميز بها الأندلسيون وما ثبت من تضحياتهم الجسيمة من أجل المحافظة على الهوية الإسلامية.. لكن استمرار الضغوط عدة عقود أثر في بناء الشخصية الإسلامية للموريسكيين فلما استقروا في مدن المغرب فرارا من الاضطهاد لم يرض المغاربة عن جوانب من سلوكهم بل وصف القادري الأندلسيين الذين استقروا في سلا بانعدام الشعور لديهم بالحشمة والوقار !! [19]

        وقد اهتم الأندلسيون الذين أقاموا بمدينة فاس بتولية الحسبة للحاج صالح " فقطع شرب الدخان وبيعه وقطع اللهو وآلات الطرب من النساء وألزم الناس الصلوات في الوقت والستر في الحمام وغير مناكر شتى " [20]

        وهذه الصور لم تقتصر على الأندلسيين بفاس بل انتشرت بين صفوف المغاربة أنفسهم [21]

        ولكن إلى جانب هـذه الصور السلبية نجد صورا إيجابية كثيرة مثل روح الجهاد والمقاومة والاعتزاز بالهوية الإسلامية والمعاملة الصادقة والحرص على العرض والشرف.

        فقد تأججت انتفاضة البيازين عام 1499 م بسبب مباشر هـو اعتداء خادم القائد الأسباني سيسنروس على ابنة مسلم من أصل أسباني في ساحة باب [ ص: 121 ] البنود في حي البيازين فهب المسلمون في ثورة عارمة استجابة لصراخ الفتاة وحاصروا بيت الحاكم الأسباني حتى تمت الوساطة بين الطرفين وعقدت اتفاقية تقرر للمسلمين حقوقهم الدينية والثقافية.. [22]

        إن روح المقاومة كانت تغذيها المشاعر الإسلامية بقوة سواء في انتفاضة البيازين ( 1499 م ) أو ثورة البشرات ( 1501 م ) التي أعقبتها وتأثرت بها أو الثورات المورسكية الكبرى ( 1568 م ) التي هـزت أسبانيا وأوروبا مدة سنتين [23]

        لقد شهد الأب دان للموريسكيين فقال : " إن مجاهدي تطوان كانوا يتعاملون غالبا بصدق وأمانة " [24] وقال هـنري ماينوراينك في مذكراته 1618 م عن مجاهدي تطوان : " والأهالي هـنا عادلون جدا وأمناء " [25]

        وقد جرت المنازعات ضد البعض الآخر مما يناقض بشدة مفاهيم الولاء والبراء في الإسلام لدواع تتصل بالسياسة العملية... بل إن التحالف برز على صعيد الأطراف المتصارعة في قرطبة عام 399 هـ [26] وهي قوى البربر والخليفة سليمان المستعين حيث تحالفوا مع أمير قشتالة سانشو غرسيه فساعدهم على احتلال قرطبة مقابل التنازل له عن عدد كبير من القلاع والحصون والمدن وهكذا فعل الخليفة المهدي ومعه واضح الفتى – قائد الحدود الشمالية من [ ص: 122 ] الاندلس وهو من الغلمان العامريين – حيث تحالف مع أمير برشلونة الكونت ريموند باريل وأمير أورقلة الكونت أرمنجو واتفق معهما على أن يمداه بجيش لمقاتلة البربر في قرطبة مقابل تقديم الطعام والمؤن ومائة دينار باليوم لكل واحد من الأميرين ودينارين باليوم لكل جندي ويأخذ النصارى سلاح البربر وأموالهم ومدينة سالم .. [27] وقد تسابق الخصمان بعد ذلك في طلب العون من الأسبان وجرت فتن عظيمة بين المسلمين بسبب العصبيات القومية والقبلية والصراع على السلطة في قرطبة فاستفاد الأسبان من ذلك بالتحالف مع الأطراف المتصارعة حتى حاز أمير قشتالة 200 موقع وحصن وقلعة ومدينة تسلمها من الخليفة هـشام المؤيد بقرطبة [28] ووافق على ذلك مجلس من الفقهاء والقضاة عقده الخليفة هـشام المؤيد لهذا الغرض. ويمكن أن نتلمس مستوى التعامل مع القيم الإسلامية في تلك الظروف الصعبة من قبل العامة وربما بعض الخاصة عندما تذكر المصادر التاريخية أن البربر عندما دخلوا قرطبة بعد هـزيمة أهلها الذين قاتلوا بشجاعة دون جدوى " منحوا الأمان للناس لقاء دفع مبالغ كبيرة من المال وقتلوا الشيوخ والأطفال وخربوا الدور واغتصبوا النساء !! " [29]

        ومنذ عام 407 هـ ( 1016 م ) " تقسم ما تبقى بيد المسلمين من أرض الأندلس إلى دويلات وإمارات بلغت العشرين عدا وعرفت في التاريخ باسم دول الطوائف " [30] " وكانت إمارات متصارعة تتسابق إلى الاستعانة [ ص: 123 ] بالأسبان في حربها مع إخوانها وتدفع لهم ثمنا لعونهم مدنا وحصونا وقلاعا وأموالا واستمر الحكام في خصوماتهم وتقاتلهم وبحثهم عن إرواء أحقادهم من إخوانهم وتسابقوا في طلب العون من النصارى.. حتى أصبحوا جميعا ودون استثناء تابعين للحكام الأسبان يدينون لهم بالولاء " [31] ولا شك أن الخلاف بين أفراد الأسرة الحاكمة في غرناطة آخر معاقل المسلمين كان له اثر كبير في سقوطها وكان أمير غرناطة أبو الحسن ( 880 – 968 هـ , 1464 – 1485 م ) قد نجح في صد هـجمات فيرناندو على حصن لوشة 1483 م لكنه عندما عاد إلى المدينة واجه ثورة ابنه أبي عبد الله الصغير ضده والتفت العامة حولا الإبن بسبب سياسة أبي الحسن الداخلية وسلوكه المنافي للقيم الإسلامية " وذلك أنه اشتغل باللذات والانهماك في الشهوات واللهو بالنساء المطربات وركن إلى الراحة والحفلات وضيع الجند وأسقط كثيرا من نجدة الفرسان وثقل المغارم وكثر الضرائب في البلدان ومكس الأسواق ونهب الأموال وشح بالعطاء إلى غير ذلك من الأمور التي لا يثبت معها الملك.. حتى باع الجند ثيابهم وخيلهم وآلة حربهم وأكلوا أثمانها... وقتل كثيرا من أهل الرأي والتدبير والرؤساء والشجعان من أهل مدن الأندلس وحصونها " [32]

        واستنجد الأمير الموحدي إدريس المأمون بالأسبان ضد ابن أخيه يحيى فشرط عليه ملك قشتالة أن يعطيه عشرة حصون من بلاده يختارها ملك قشتالة وان يبني بمراكش كنيسة يظهر فيها النصارى بعض دينهم ويضربون فيها نواقيسهم لصلواتهم وأن من أسلم من النصارى لا يقبل منه إسلامه ويرد إلى [ ص: 124 ] إخوانه فيحكمون فيه بأحكامهم إلى غير ذلك فأسعفه المأمون في جميع ما طلبه [33] وكان إدريس المأمون يسرب أخبار المجاهدين المورسكيين إلى الأسبان وسلم مرفأ العرائش لهم مقابل 200 ألف دوكا سنة 1610 م وكان يرجع أسرى المسلمين الفارين من طنجة إلى الأسبان المسيطرين عليها... لذلك كله قرر المجاهدون تصفيته سنة 2012 هـ ( 1613 م ) " فبقي مطروحا خمسة أيام بلياليها والناس يأتون لمشاهدته وكانت عليه سمة النصراني " [34]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية