الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        إجراءات الحكم الأموي

        وكان الخلفاء الأمويون داعين لاتجاهات الرأي العام في المدينة وتتمثل [ ص: 48 ] سياستهم في مصالحة أهل المدينة ومعاتبتهم وأحيانا تقريعهم وتهديدهم كما أنهم بذلوا جهودا لمصالحتهم واسترضائهم وتقريب قياداتهم وإكرامهم بالأموال وتوليتهم الأعمال. ولكن ذلك لم يعقهم عن اتخاذ إجراءات تحد من قوة أهل المدينة، مثل الضغط عليهم اقتصاديا بمنع العطاء أو فرض التجنيد الإجباري على عدد كبير منهم وإشغالهم بجبهات عديدة وكذلك فرض الرقابة الأمنية الشديدة على السكان ثم التصدي العسكري العنيف لثورات المعارضة...

        وفيما يلي تفصيل لإجراءات الحكم ضد المعارضين في المدينة ...

        1- المصارحة السياسية

        يعكس الخطاب السياسي الرسمي مدى المرارة التي يشعر بها الحكم الأموي بسبب مواقف المعارضة بالمدينة وقد بلغ الخطاب أوج حدته بعد الحرة...

        فلما حج الخليفة عبد الملك بن مروان سنة 75 هـ زار المدينة وخطب فيهم ثم أقام خطيبا له آخر وهو جالس على المنبر فتكلم الخطيب " فوقع بأهل المدينة وذكر من خلافهم الطاعة وسوء رأيهم في عبد الملك بن مروان وأهل بيته وما فعل أهل الحرة " . [1] ولم يتردد محمد بن عبد – أحد رجالات قريش - في التصدي للخطيب ولكن الجند الأموي أخذوه ثم عفى عنه عبد الملك ووصله وبين له حبه لقريش..

        وهكذا فإن عبد الملك بن مروان يتصارع في داخله الغضب والحب..

        الغضب من أهل المدينة ومعارضتهم الشديدة للحكم الأموي ورفعهم السيف [ ص: 49 ] بوجهه.. والإحساس بصلة القربى معهم وكثير منهم من قريش وقد ربى بينهم كما أنه كان يعرف لهم مكانهم في الإسلام ومعرفتهم بالحديث والأحكام " يا أهل المدينة.. إن أحق الناس أن يلزم الأمر الأول لأنتم وقد سالت علينا أحاديث من قبل هـذا المشرق لا نعرفها ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن فالزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم – رحمه الله – وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم – رحمه الله - " . [2]

        ومن أصرح ما عبر به عبد الملك عن مراعاته صلات القربى والرحم والصداقة التي تربطه ببعض رجالات المدينة قوله : " إني لأهم بالشيء أفعله بأهل المدينة لسوء أثرهم عندنا فأذكر ابن عبد الرحمن فأستحي منه فأدع ذلك الأمر " وكان أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي ( ت 94 هـ ) هـذا ثقة فقيها محدثا عالما عاقلا وقد أوصى به عبد الملك ابنه الوليد خيرا.

        ولم ينس الأمويون مواقف أهل المدينة منهم رغم مرور السنين فهذا عبد الملك بن مروان يخاطبهم : " نحن نعلم يا معشر قريش أنكم لا تحبوننا أبدا وأنتم تذكرون يوم الحرة ونحن لا نحبكم أبدا ونحن نذكر مقتل عثمان " [3]

        وهذا عثمان بن حيان المري لما تولى المدينة للوليد بن عبد الملك خطب فيها على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيها الناس : إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه وقد ضوى إليكم من يزيدكم خبالا، أهل العراق.. والله لا أوتي بأحد آوى أحدا منها [ ص: 50 ] أو أكره منزلا إلا هـدمت منزله وأنزلت به ما هـو أهله كونوا من أحلاس بيوتكم وعضوا على النواجذ فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم. إنكم في فضول كلام غيره ألزم لكم فدعوا عيب الولاة وإن الفتنة لمن البلاء والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد " قال القاسم بن محمد : صدق في كلامه هـذا الأخير إن الفتنة لهكذا. [4]

        2- نقص العطاء أو منعه

        أوقف الخلفاء الأمويون عطاء المعارضين من أهل المدينة ونجد أن ابن شهاب الزهري طلب من الخليفة عبد الملك بن مروان أن يجري عليه عطاءه المقطوع.. [5]

        في حين نجد أن عطاء سعيد بن المسيب تجمع في بيت المال حتى بلغ بضعة وثلاثين ألفا فامتنع عن أخذها فكان بعض أهله يأخذها فلما مات اقتسموها. [6]

        وكان عطاء خارجة بن زيد بن ثابت – أحد الفقهاء العشرة بالمدينة – قد قطع من الديوان فأمر عمر بن عبد العزيز عند استخلافه بإعطائه كل ما قطع عنه فاعتذر خارجة عن أخذه لأن له " نظراء " فينبغي أن يعمهم الأمر " وإن خصني به فإني أكره ذلك " فأجاب عمر : " لا يسع المال ذلك ولو وسعه لفعلت.. " [7] مما يوضح كثرة أصحاب الحقوق في العطاء الذين منع عنهم حثهم بحيث يعجز بيت المال عن تعويضهم ولا شك أن الفقيه [ ص: 51 ] الكبير خارجة دافع عن الحق العام وإن فوت مصلحته الشخصية فسجل موقفا رائعا..

        وقد استمرت الإجراءات بمنع العطاء وأحيانا بتخفيضه حتى أواخر عهد الدولة الأموية فقد صدرت أوامر الخليفة هـشام بن عبد الملك بخفض أعطيات آل صهيب بن سنان الرومي وحاول الوالي إبراهيم بن هـشام المخزومي تنفيذ الأمر بحقهم لولا موقف أهل المدينة وخاصة إبراهيم بن محمد بن طلحة التيمي الذي رجا الوالي حينا وهدده حينا آخر بالامتناع عن أخذ العطاء حيث نجحوا في تعطيل أمر الخليفة [8]

        ويبدو أن المعارضة في المدينة كانت تنتقد الإجراءات الاقتصادية للحكم الأموي فسعيد بن المسيب يرى أنهم : " يجيعون الناس ويشبعون الكلاب !! " [9] وعبد الله بن يزيد بن هـرمز من الفقهاء المعدودين يرى أنهم : " لا يضعون غنم الصدقة وإبلها في حقها " [10] وبذلك اتهمهم بالتلاعب في أموال الزكاة.

        ومما يتصل بالضغط على أهل المدينة عن طريق العطاء أن هـشام بن عبد الملك أمر حين نقص الفيء عن أعطياتهم بإكمالها من صدقات اليمامة !!. وقد أظهر أهل المدينة أنفة واعتزازا فرفضوا أخذ العطاء من أموال الزكاة " فجعلوا يردون الإبل ويضربون وجوهها بأكمتهم قائلين : والله لا ندخلها وفيها درهم من الصدقة فردت الإبل " وعند ذلك أمر الخليفة هـشام بن عبد الملك أن تصرف عنهم الصدقة وأن يحمل إليهم تمام عطائهم من الفيء. [11] [ ص: 52 ]

        وسواء أكان الإجراء اختبارا لأهل المدينة أم مجرد هـفوة غير مقصودة تم التراجع عنها فإن الحادثة تكشف عن صلابة السكان واعتزازهم بالذات وقدرتهم على الحفاظ على كرامتهم رغم الظروف الصعبة التي مرت عليهم خلال العصر الأموي.

        3- إضعاف القوة العسكرية لأهل المدينة

        كانت الدولة الأموية تلجأ إلى أسلوب فرض البعوث على سكان المدن المعارضة ونفلهم إلى ميادين أخرى وبذلك تضعف القوة العسكرية في تلك المدن كما فعل الحجاج بن يوسف مع الكوفيين ولكن المدينة لم تتمتع بثقل عسكري كبير طيلة العصر الأموي مما سهل القضاء على ثورة الحرة بصورة أثارت الاستغراب لدى أحد القادة الثلاثة الذين ولاهم أهل المدينة على أنفسهم لمواجهة جيش الشام وهو عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي وبعد الوقعة توارى ولحق بابن الزبير وقاتل معه فقد قارن بين أحداث الحرة وقتال الزبير بمكة فقال : " كنت أعجب كل العجب أن ابن الزبير لم يصلوا إليه ثلاثة أشهر وقد أخذوا عليه بالمضايق ونصبوا له المنجنيق وفعلوا به الأفاعيل ولم يكن مع ابن الزبير أحد يقاتل له حفاظا إلا نفر يسير وقوم آخرون من الخوارج وكان معنا يوم الحرة ألفا رجل كلهم دو حفاظ فما استطعنا أن نحبسهم يوما إلى الليل " . [12]

        وقد وصف جويرية بن أسماء جيش الحرة المدني بالكثرة والهيبة: [ ص: 53 ] " فخرج أهل لمدينة بجموع كثيرة وبهيئة لم ير مثلها فلما رآهم أهل الشام هـابوهم وكرهوا قتالهم " . [13] ولكن هـذا الوصف ليس دقيقا وقد يكون الأثر الحقيقي للجيش نفسيا معنويا بسبب الصفة الدينية للمدينة ولسكانه آنذاك وهم من أبناء الصحابة... وبعد الحرة فقد سكان المدينة كثيرا من هـيبتهم.. كما ورد " عن عبد الله بن أبي بكر : كان أهل المدينة أهيب الناس عند الناس حتى كانت الحرة فاجترئ عليهم " . [14]

        وكان الخلفاء الأمويون يعرفون قلة عدد سكان المدينة وضعفها العسكري وأن فعالياتها السياسية أكبر من قوتها بكثير ومرد تلك الفعالية إلى طبيعة الرجال الذين هـم أبناء الصحابة من التابعين وأتباع التابعين وكثرة أهل العلم فيها مما يجعل النشاط السياسي تعبيرا عن الوسط الثقافي وتفاعله مع الأحداث العامة في الدولة التي أشادها آباؤهم..

        لكن الخلفاء الأمويين كانوا يتابعون هـذه المدينة النشيطة في الثقافة والسياسة وعراقة الأرومة وقد شهد الخليفة هـشام بن عبد الملك جنازة سالم بن عبد الله بن عمر " فرأى في الناس كثرة فضرب عليهم بعث أربعة آلاف فسمي عام الأربعة آلاف " [15] وأرسلهم لغزو الصائفة في السواحل الشامية [16]

        وهكذا لم تغب عين الحكم عن النمو السكاني للمدينة وما يستتبعه من قوة عسكرية رغم الهدوء الظاهري في الحياة السياسية في المدينة في ذلك الوقت [ ص: 54 ] لكن قائدا كبيرا كان يتهيأ من خلال نشاطه الواسع ونفوذه الروحي والأدبي ومكانته الاجتماعية للانقضاض على الدولة الأموية لولا أن يسبقه العباسيون في التنفيذ فحرموا المدينة من العودة إلى مكانتها السياسية تحت قيادة محمد النفس الزكية.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية