الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        عادة قتل السباع وعصبية المحلات

        وهذه ظاهرة غريبة كونتها عصبية العامة وجهالة الناس في هـذه الفترة فإذا بسكان كل محلة يتعصبون لمحلتهم فتنشأ تكتلات في المحلات وتثور معاك دامية بين محلة وأخرى لأتفه الأسباب فقد اعتاد الناس الخروج [ ص: 88 ] لقتل السباع فإذا قتلوا سبعا طافوا به في محلات بغداد في مظاهرة تطغي عليها شعارات العصبية للمحلة. وكان هـذا يثير المحلات الأخرى فيؤدي إلى حدوث فتنة تسيل فيها دماء الطرفين.

        سأذكر نماذج لما يحدث بين المحلات من صدامات عنيفة مرجعها التعصب للمحلة : ففي 17 رمضان سنة 601 هـ حدثت فتنة بين أهل باب الأزج وأهل الأمونية وسببها أن أهل باب الأزج قتلوا سبعا وأرادوا أن يطوفوا به فلما مروا بالمأمونية منعهم أهلها فوقعت بين الطرفين فتنة جرح فيها خلق كثير وفشل صاحب الباب [1] في تسكين الفتنة وجرحت فرسه فعاد. وفي اليوم التالي تجدد القتال بين الطرفين بالسيوف والنشاب ونهبت الدور حتى اضطرت السلطة إلى جعل الجند الأتراك يبيتون تحت المنظرة فسكنت الفتنة بينهم. ولكن لم يمض على هـذه الحادثة سوى ثلاثة أيام حتى نشبت الفتنة بينهم. ولكن لم يمض على هـذه الحادثة سوى ثلاثة أيام حتى نشبت الفتنة بين أهل قطفتا ومحلة القرية التي هـي من محال الجانب الغربي إذ منع أهل محلة القرية الآخرين من الطواف بالسبع في محلتهم ولن تهدأ الفتنة إلا بتدخل الديوان [2] وهكذا انقلبت عادة قتل السباع وهي رياضة مفيدة وتسلية جميلة إلى عامل فتنة بسبب عصبية المحلات وجهالة العوام.

        إن معظم القتال الذي كان يدور بين المحلات لم يكن له سبب وجيه فرب خصام بين رجلين من محلتين يتطور إلى القتال الدموي بين أهالي المحلتين كما حدث سنة 601 هـ بين أهل سوق السلطان والجعفرية الذين تدخل الديوان بينهم وحسم الشر.

        لقد أحس الخليفة والديوان بأن هـذه الفتن بين المحلات لا يمكن أن تستمر [ ص: 89 ]

        بهذا الشكل إذ ما إن تهدأ في مكان حتى تثور في آخر وهكذا دواليك وكان في ذلك من الإشغال للدولة بإطفاء الفتن ما فيه حتى عمد الخليفة إلى تعيين أمير كبير من مماليكه هـو فخر الدين أيبك الأرنباي شحنة بغداد ومعه جند كثيرون فطافوا في البلد وقتلوا من اشتبهوا به من مثيري الفتن والقلاقل فسكن الناس [3] ولكن هـل ماتت عصبية المحلات ؟ هـل وعت العامة عظم المصاب من هـذا الصراع ؟

        إن الجواب على ذلك هـو في استعراض الأحداث التالية : ذكر ابن الفوطي في حوادث سنة 629 هـ أن أهل باب الأزج [4] وأهل المختارة [5] جرت بينهم فتنة وتراموا بالبندق والمقاليع والآجر وتجالدوا بالسيوف ولم تسكن الفتنة وتراموا بالبندق والمقاليع والآجر وتجالدوا بالسيوف ولم تسكن الفتنة إلا بتدخل السلطة بعد أن قتل وجرح جماعة من الفريقين وقد قبض على جماعة من الطرفين فضربوا وقطعت أعصابهم وبذلك سكنت هـذه الفتنة [6] وفي زمن الناصر لدين الله كان الناصر يشجع عادة قتل السباع متأثرا بآرائه في الفتوة فكان ينعم على الشباب المشتركين بشيء من البر وكانوا عندما يخرجون إلى الصيد يجتمع من كل محلة جوق ومعهم الدفوف والمزامير والمغاني وسائر المالهي ويدورون في البلد. وفي سنة 640 هـ منع أهل باب الأزج أهل المأمونية من العبور إليهم وسيوفهم مشهورة فاقتتل الفريقان وضرب نائب باب النوبي بالآجر لأنه انحاز إلى أهل المأمونية وقد قتل عدد من الفريقين ونهبت دكاكين ودور كثيرة ولم [ ص: 90 ] يستطيع الشحنة أن يكفهم عن القتال الذي استمر حتى قتل من الفريقين جماعة وخربت عدة دور من المأمونية وسبيت النساء ونهبت الأموال حتى نزل الجند الملبسين بالعدد فكفوهم وبات تحت منظرة باب الحلبة عدة ليال خوفا من تجدد الفتنة في الليل ومع ذلك لم يمنعوا من الخروج لقتل السباع بل استمروا على خروجهم وبين أيديهم السيوف الكبيرة والمغاني وعظم الأمر حتى خرجت النساء حواسر !!.. وقد وقعت حوادث أخرى بين أهل المختارة وسوق السلطان تدخل لحسمها الجيش بعد وقوع ضحايا كثيرة [7]

        ومن الفتن الكبيرة التي حدثت بسبب العصبية للمحلات ما جرى سنة 653 هـ بين أهل محلة أبي حنفية وأهل محلة الرصافة والخضريين إذ استظهر أهل محلة أبي حنفية والخضيريين إذ استظهر أهل محلة أبي حنيفة والخضيريين على أهل الرصافة وطردوهم إلى باب المحلة فتزاحموا عند الدخول حتى مات منهم ثلاثون رجلا وحاصروهم ومنعوا الماء عنهم حتى تدخل شحنة بغداد وكفهم عن الشر ولكن القتال تجدد بعد أيام وسقط قتلى وجرحى واتسع نطاق الفتنة بتدخل أهل البصرة إلى جانب أهل الرصافة وأهل الكرخ إلى جانب الخضيريين فحضر أصحاب الشحنة وكفوهم ثم أصلحوا بين الفريقين. [8]

        وفي العهد الأيلخاني استمرت عادة قتل السباع وما تجره من فتن وما توقده من عصبيات بين أهل المحلات ففي سنة 686 هـ كثر اهتمام العوام بقتل السباع وجرت حروب كثيرة فأنكر الديوان ذلك الديوان ذلك وتقدم بمنع حرب [ ص: 91 ] السباع [9] وهكذا أطفئت بعد أن دامت فترة طويلة ذهبت خلالها ضحايا وسالت دماء.

        والحق أن المرء ليعجب لماذا لم يقدم العباسيون على مثل هـذا الإجراء فيحقون الدماء ويزيلون الفتن ؟ ربما يعود ذلك إلى الرغبة في كسب رضا العامة واجتناب غضبها وربما يعدو إلى تشجيع بعض الخلفاء عادة قتل السباع كرياضة مفيدة ذات صلة بالشجاعة وخصال الفتيان كما هـو شأن الناصر لدين الله الذي كان يقدم العون لمن يمارس عادة قتل السباع.

        ولم تقتصر عصبية المحلات على بغداد بل كانت تحدث في مدن أخرى ايضا فأهل مدينة الحلة كانوا كلهم إمامية اثني عشرية ومع ذلك فقد انقسموا إلى طائفتين الأكراد وأهل الجامعين وكانت الفتنة بينهما متصلة والقتال قائما أبدا [10] وأهل كربلاء كانوا أيضا إمامية وهم طائفتين أولاد رخيك وأولاد فائز والقتال بينهما دائم. [11]

        والآن وقد استعرضت أحداث الصراع بين الحلات وأوضحت السبب الكامن وراءها وهو العصبية ولكن الأمر المهم لماذا ( أتساءل كيف ) ظهرت عصبية المحلات بهذا الشكل العنيف ؟ وكيف يحدث في ظل حكومة قائمة مثل هـذا القتال الدموي الرهيب الذي كان ما يكاد ينطفئ في مكان حتى يتجدد في آخر؟ إن الذي يتبادر إلى الذهن أن ضعف السلطة هـو الذي أضاع ولاء العامة لها فتحول إلى الولاء للمحلة وجرأ العوام على ارتكاب تلك الأعمال. [ ص: 92 ]

        إن التفكك الذي حصل في المجتمع نتيجة الفتن الكثيرة حتى إذا ما عينا حالة المجتمع أواخر العصر العباسي وجدناه في غاية الانحلال والضعف فقد هـدمته عصبية المحلات وعصبية المذاهب والطوائف فلم يستطع الوقوف على قدميه أمام قوة المغول المندفعة التي أسقطت العروش ودكت الحصون وهي بعد في قوتها وعنفوانها عندما حاصرت بغداد الجريحة التي أنهكتها الفتن والانقسامات.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية