الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        نماذج وصور من فعاليات المتصوفة

        نلاحظ شيوع التصوف في المجتمع بشكل بارز وعند قراءة مصادر الفترة تطالعنا مصطلحات المتصوفة وتعابيرهم فقد أثر المتصوفة في أدب عصرهم بشكل ملحوظ كما أثروا تأثيرا كبيرا في الحياة الاجتماعية وعند مطالعة كتب التراجم لرجال ذلك العصر نجد عددا كبيرا منهم ينتسبون إلى التصوف والتأله والمعرفة. ولست أريد هـنا أن أفصل الكلام في التصوف خلال هـذه الفترة الطويلة التي تمتد قرنا ونصف القرن من الزمان بل سأكتفي بعرض بعض اللقطات التي تصور جانبا من حياة المجتمع في هـذه الفترة : ففي قرية أم عبيدة القريبة من مدينة واسط شاعت الطريقة الرفاعية التي تنتسب إلى الشيخ أحمد بن رفاعة المتوفى سنة 578 هـ وكان سلطان العارفين في زمانه وانضم إليه خلق من الفقراء وأحسنوا فيه الاعتقاد ويقال لهم الأحمدية والبطايحية وكان لهم أحوال عجيبة من أكل الحيات حية والنزول إلى التنانير وهي تضرم والدخول إلى الأفرنة وينام أحدهم في جانب الفرن الخباز يخبز من الجانب الآخر فيرقصون في السماعات على النيران إلى أن تنطفئ. [1] [ ص: 93 ]

        وقد زار ابن بطوطة رباط المتصوفة في قرية أم عبيدة سنة 725 هـ وذكر أن فيه آلاف الفقراء ووصف حفلة من حفلات المتصوفة شهدها بنفسه. فبعد صلاة العصر ضربت الطبول والدفوف وأخذ الفقراء في الرقص ثم صلوا المغرب وقدموا السماط وهو خبز الأرز والسمك واللبن والتمر فأكل الناس ثم صلوا صلاة العشاء وأخذوا في الذكر والشيخ أحمد كوجك حفيد الرفاعي جالس على سجادة جده المذكور ثم أخذوا في السماع وقد أعدوا أحمالا من الحطب فأججوها نارا ودخلوا في وسطها يرقصون ومنهم من يتمرغ فيها ومنهم من يأكلها بفمه حتى أطفئوها وهذا دأبهم وهذه الطائفة الأحمدية مخصوصون بهذا. ومنهم من يأكل الحية العظيمة فيعض بأسنانه على رأسها حتى يقطعه [2] ويبدو أن الطرق الصوفية شاعت كثيرا في واسط ففي فم الدبل التي هـي من قرى واسط يوجد المشايخ العيفية وفقراؤهم يدخلون النار ويأكلون الحيات [3] وفي أربيل يوجد رباط فيه مائتا صوفي شغلهم الأكل والرقص في كل ليلة جمعة.

        وبعد هـذه اللقطات السريعة التي قدمت فيها نماذج من حياة المتصوفة أريد أن أوضح أن ذلك لا يعني أن سائر المتصوفة كانوا كذلك فالتصوف أحيانا منهج للسمو الأخلاقي والروحي وكان كثير من العلماء والأشراف ينتسبون إليه فينقطعون إلى العبادة والزهد وعمل الخير. ولكن العامة لا يمكنها الصعود إلى هـذا المستوى فتقوم بتلك الأعمال العجيبة وتنسبها إلى والولاية والكرامة.

        ومن جهالة العامة أنهم كانوا ينسبون الولاية إلى بعض البلهاء فقد كان [ ص: 94 ] حميد الزيزي رجلا أبله يمشي عريان مكشوف السوءة في الأسواق على أشنع ما يكون منظرا أسود اللون من القذر والرماد الذي كان ينام عليه ومع ذلك فقد كان العوام يعتقدون فيه ويظنونه واليا من أولياء الله تعالى ولما توفي سنة 595 هـ شدوا تابوته بالحبال وتبركوا به وتبع جنازته خلق كثير منهم واستمروا يزورون قبره وينذرون له النذور [4] وهكذا لبغت جهالة العامة حد السخف والهوس وقد استغل البعض ذلك فنجد أحمد ابن الهروي النحوي يظهر الجنون والبله فإذا برصيده يرتفع وبسوقه يروج [5] والعجيب أن الحكومة تسجنه لأنه " أثقل البلد " عند العوام على حد تعبير ابن الفوطي ثم تطلق سراحه وتخصص له مبلغ ثلاثين دينارا في كل سنة. وربما أرادت بذلك مداراة العامة وكسب رضاها ! وقد ضاعت المقاييس الدينية عند العامة فالجهالة لم تبق من الدين سوى اسمه فهذا إبراهيم بن سعيد الشاغوري الموله مات سنة 680 هـ كان على قاعدة المولهين من عدم التعبد بصلاة أو صيام أو طهارة والمفروض أن ذلك يسقطه في نظر المسلمين ولكن للعامة مقاييس أخرى فقد كانت تعتقد فيه اعتقادا يتجاوز الوصف لما يرون من كشفه وكلامه على الخواطر [6]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية