الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        أخلاق العامة

        عندما ينظر المرء إلى الجانب الخلقي من حياة العامة في هـذه الفترة يطالعه اتجاهان : الأول : اتجاه الأخلاق والتصوف ويميل إلى تطرف في كثير من الأحيان. والاتجاه الثاني : يجنح إلى التحلل من قيود الأخلاق والخروج [ ص: 95 ] على الأعراف والتقاليد الاجتماعية.

        ويظهر التطرف في كل من الاتجاهين. فقد كان التناقض طابع العصر في تلك الفترة وهذا أمر طبيعي يعلله علماء النفس بردود الفعل فعندما يجنح المجتمع إلى الفساد والخلاعة والمجون تبرز عناصر تميل إلى التقوى والصلاح والخير ولن أبحث هـنا أخلاق العامة بصورة شاملة وإنما اكتفي إلى بعض الخطوط العريضة للسلوك العام.

        لقد وصف ابن جبير [1] أخلاق أهل بغداد عندما زارها سنة 580 هـ وشكا من كبرياء القوم واعتزازهم بأنفسهم وببلدتهم واستصغارهم لغيرهم. وذكر شيوع التعامل بالربا فيهم وتطفيفهم في الموازين والمكاييل وذكر الخزرجي صاحب العسجد المسبوك شيوع المنكرات ببغداد وظهورها سنة 577 هـ بحيث أقام حاجب الباب جماعة لإراقة الخمور وأخذ المفسدات [2] ونجد في رسالة أبي عبد الله محمد ابن يحيى بن فضلان الفقيه إلى الناصر لدين الله ما يشير إلى أخلاق أهل الذمة في بيوعهم ومعاملاتهم فقد وصفهم بالغش في الحوائج والدغل وبسرقة الذهب وذلك باستبداله بالنحاس وكذلك يفعلون بالفضة فيجعلون عوضها في الأماكن المستورة بحسب احتمالها [3] وقد سعت السلطة في بعض الفترات إلى مكافحة الرذيلة وإزالة المفاسد كما أشرت إلى ذلك في عهد الناصر لدين الله وكذلك في الفترة الإيلخانية فقد ذكر ابن الوردي في حوادث سنة 721 هـ القيام بإصلاحات خلقية فقد استتابوا الخاطئات وزوجوهن وأراقوا الشرب ومنعوا الناس من العصير [ ص: 96 ] ونودي أن من تخلف عنده شيء من الشراب حل ماله ودمه للسلطان فطلع بعد ذلك عند أحدهم جرة فقتلوه وعند آخر جرتان فقطعوا رأسه [4] وجاء في عقد الجمان أبطل أبو سعيد ابن خربندا مكس الغلة ورسم على الخمارين وألزمهم بإحضار الخمور في الظروف فاجتمع نحو عشرة آلاف ظرف فأهرقت وأحرقت الظروف وفعل ذلك في جميع البلاد [5] وكذلك حدث سنة 734 هـ حيث أطلق ببغداد ضمان الخمر والفاحشة [6] وقد كثر اللصوص الطرارات ببغداد في أواخر العصر العباسي وزادت جرأتهم فكانوا يأتون بالعدة ويأخذون أموال الناس [7] ولم تعد الطرق بين بغداد وغيرها من المدن أمينة إذ كثر فيها قطاع الطرق واللصوص [8] وفي سنة 677 هـ أي في أوائل العهد الإيلخاني ظهر صبيان من الشطار يعرف أحدهما بابن الحماس والآخر بالتاج الكفني وانضم إليهما جماعة من الجهال وقويت شوكتهما وانتشر ذكرهما فأرعبا الناس فاحتال صاحب الديوان عليهما وأحضرهما وقربهما ليكفهما عن الشر فزاد فسادهما وجرأتهما على الناس وأخذهما الأموال بالتهديد والإكراه فأمر صاحب الديوان بقتلهما وطيف برأسيهما في بغداد

        وإلى جانب هـذا التيار من التحلل والفساد نجد تيارا من الإصلاح يقوده العلماء وكانت مجالسهم عامرة بعلوم الفقه والحديث والرقائق طافحة [ ص: 97 ] بالإيمان والحماس الملتهب وكان يحضرها عدد كبير من الناس فكان أثر هـذه المجالس كبيرا جدا على عامة الناس إذ كانت تحدث في تلك المجالس توبة الناس وقلوبهم خاشعة وعيونهم دامعة ذارفة وقد حضر ابن جبير بعض هـذه المجالس خلال زيارته لبغداد سنة 580 هـ ووصفها في كتاب رحلته وصفا رائعا [9]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية