الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الثاني

        دور العامة في الحياة السياسية

        أو علاقة السلطة بالعامة

        أهمية دور العامة وظهور حركة الشطار والعبارين ونظام الفتوة

        إن التكتلات التي حدثت في صفوف العامة في هذه الفترة أكسبتها أهمية وقوة إذ أصبحت العامة أقدر على الشغب ومعاكسة الحكام في حالة السخط، وعلى المساندة والمساعدة في حالة الرضى. وقد تكلمت عن طبيعة هذه التكتلات المذهبية والطائفية والمحلية، وهنا أضيف تكتلا ذا طبيعة مغايرة وهو المتمثل بحركات الشطار والعيارين الذين كانوا يمثلون تكتلات شعبية لا تلتزم بنظام أخلاقي ولا بعرف اجتماعي تعيث في الأرض فسادا حتى خطا الناصر لدين الله خطوة كبيرة عندما سعى لتنظيمها. وبذلك استمرت حركات الشطار والعيارين ضمن حركة (الفتوة) وكان يريد بذلك امتصاص الطاقة التي كانت مبعث شر وفساد وتحويلها لصالح المجتمع والدولة فكانت (الفتوة) امتدادا لحركة الشطار والعيارين ولكن [ ص: 98 ] ضمن إطار أخلاقي متين وثمة أمر جديد في حركة الفتوة يميزها عن حركة الشطار والعيارين وهو مشاركة الأكابر والأعيان فيها فهي لم تقتصر على العامة؛ وذلك لأن الخليفة الناصر نفسه اعتبر رئيسا " للفتوة " [1] وكان كثيرا ما يشتغل برمي البندق واللعب بالحسام المناسيب ويلبس سروايل الفتوة وقد اعتبر ابن خلدون ذلك دليلا على هـرم الدولة وذهاب الملك عن أهلها [2] ولكن الواقع أن الناصر بحركته الجديدة حاول أن يرجع للدولة شبابها ويعيد لها تماسكها إلى حد ما بعد أن فقدته مدة طويلة.

        وفي بداية نشوء الحركة لم يكن نظامها واضحا بل تبلور تدريجيا فلم تكن هـناك شروط والتزامات منذ البداية ولكن حدث أن اختصم أحد رفقاء فاخر العلوي المقرب من الوزير ناصر بن مهدي مع رفيق لعز الدين نجاح الشرابي وصارت فتنة عظيمة بمحلة قطفتا حتى تجالوا بالسيوف فلما علم الناصر بذلك أنكره وجمع رؤساء الأحزاب وقرأ عليهم نظام الفتوة وشروط العضوية وتقرر أن من يخالف ذلك تبطل فتوتة [3] وقد تضمن نظام الفتوة الجديد [4] ما يلي :

        1- إذا ارتكب الرفيق جريمة القتل فإن رفيقه يتبرأ منه في جمع من الفتيان وبذلك يخرج عن دائرة الفتوة

        2- إن كل فتى يحوي قاتلا ويخفيه ويساعده على أمر ويئويه يتبرأ رئيسه منه. [ ص: 99 ]

        3- إن الفتى متى قتل فتى من حزبه سقطت فتوته ووجب أن يؤخذ منه القصاص فإن كان القتيل ليس من الفتيان بل عونا من الأعوان أو متعلقا بديوان في بلد الإمام الناصر فإن القاتل تسقط فتوته ويؤخذ القصاص منه.

        وبذلك أصبحت الفتوة حركة منظمة ذات قواعد قانونية وأسس أخلاقية وقد طبق النظام الجديد زمن الناصر لدين الله فعندما قام اثنان من الفتيان سنة 604 هـ بقتل ابن حسان وكان أحد النقباء بباب الشحنة أخذت سراويلات الفتوة منهما وقتلا [5] .

        ولكن يبدو أن حركة الفتوة فقدت حيويتها بعد الناصر لدين الله وعادت حركة الشطار والعيارين إلى الظهور من جديد فقد ترأس العندي فلما طاعة الخليفة فلاحقتهم السلطة وقتلت بعضهم فتفرقوا وسجن العندي فلما تولى المستعصم وأطلق السجناء كان من جملتهم العندي الذي عاد إلى الفساد وقاد جمعا من العيارين فطلبه أيبك الحلبي شحنة بغداد فهرب إلى هـمذان وهناك قتله شحنة المدينة وحمل رأسه إلى بغداد فعلق بظاهر سوق الظفرية سنة 645 هـ [6]

        وفي خلافة المستعصم نشطت حركة العيارين ببغداد وساعدت ظروف المجتمع في هـذه الفترة على ازدياد نشاط الشطار والعيارين واللصوص وذلك بسبب الفتن المذهبية والطائفية الكثيرة وظهور عصبية المحلات بشكل قوي وانشغال السلطة بإطفاء الفتن مما أضعفها وأنهكها فكان العيارون يعيثون ببغداد فسادا يسرقون الأموال وينهبون البيوت وبلغت بهم الجرأة إلى مهاجمة دور الأمراء [7] . [ ص: 100 ]

        وقد أصاب الناس الهلع والخوف من العيارين فلم يعودوا يأمنون على أنفسهم وأموالهم. ولعل مما يوضح نفسية الناس في خلافة المستعصم ما أورده صاحب الحوادث الدامعة عن محمد بن أبي الفرج ابن رئيس الرؤساء فقد كان رجلا ساذجا سليم الصدر وله حكايات غريبة منها أنه أحضر بناء وأمره ببناء دار يكون حائطها في غاية الإحكام والعرض بحيث إذا شرع العيارون في نقبه من آخر الثلث الأول من الليل يفرغون منه وقت السحر فجعل البناء عرضه ست أجرات بالقالب الكبير فلما فرغ أمر جماعة أن ينقبوه من الثلث الأول من الليل ففعلوا ففرغوا منه نصف الليل فقال للبناء زد ثلاث آجرات أخرى [8] .

        ولئن كانت القصة نادرة من النوادر تصلح للتفكه فإنها تعبر بنفس الوقت عن روح الخوف والهلع من الشطار والعيارين الذين نشطوا كثيرا في هـذه الفترة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية