الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        فقهاء المدينة وعلاقتهم بالرأي العام وبالخلافة الأموية :

        ظهور الفقهاء وميادين تأثيرهم

        تمكن الباحث من حصر أسماء ثمانية وثمانين فقيها ظهروا في المدينة خلال العصر الأموي ومعظمهم من طبقة التابعين وتبع التابعين وبعضهم من الصحابة وهو عدد كبير إذا قيس بعدد سكان المدينة ومن هـؤلاء الفقهاء أربعة عشر فقيها من الموالي وبقيتهم من العرب مما يجعلنا نشك في صحة استقراء عبد الرحمن بن زيد بن أسلم للواقع العلمي عندما قال : " لما مات العبادلة.. صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي.. " [1] ولكن يمكن حمل كلامه على رءساء الفقهاء.. عطاء ( مكة ) وطاووس ( اليمن ) الذين سماهما عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وعلى أية حال فإن الأرقام العددية لا تدل على مستوى التأثير في الرأي العام بالمدينة؛ لأن العدد معيار واحد من عدة معايير منها قدرة الفقيه على التأثير واعتراف الجمهور له بالعلم والصلاح وقبولهم لرأيه وتوجيهه وخاصة الحياة السياسية وإبداء الرأي في أحداثها حيث لم تسجل المصادر أية مواقف عامة من الأحداث لمعظم الفقهاء الذين تضمهم القائمة ولا نعلم السبب في ذلك هـل هـو تقصير المصادر؟ أم الموقف السلبي من الأحداث يساوي السكوت الذي اتخذته [ ص: 55 ] الأكثرية !!

        ولا تذكر الروايات التأريخية أن فقهاء المدينة كانوا يجهرون أمام الجمهور بالمعارضة للحكم الأموي ولكنها تسجل مناقشات سياسية تجري عادة بين فقيهين يثقان ببعضهما فقد تناقش عروة بن الزبير ( ت 94 هـ ) مع علي بن الحسين بن علي ( زين العابدين ) في المسجد النبوي بعد صلاة العشاء في الموقف من الحكم الأموي فذكرا " جور من جار منهم " متخوفين من عقوبة الله لمقامهم معهم مع عدم استطاعتهم التغيير فكان رأي عروة : " إن من اعتزل أهل الجور والله يعلم منه سخطة لأعمالهم فإن كان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رجي له أن يسلم مما أصابهم " . وقد خرج عروة فسكن العقيق. [2]

        وكان عبد الله بن يزيد بن هـرمز مولى لدوس ( ت 148 هـ ) من فقهاء المدينة المعدودين " وكان ينتقد الأمراء يقول: إنهم لا يضعون غنم الصدقة وإبلها في حقها " وكان إذا قدمت غنم الصدقة المدينة امتنع عن أكل اللحم لشكه في عدالة الجباية ! وقد صارح الإمام مالك بن أنس – الذي جالسه ثلاث عشرة سنة – بما انتقص من شرائع الإسلام وما يخاف من ضيعته وإن دموعه لتنسكب !!. [3]

        وقد انتقد ربيعة بن أبي عبد الرحمن ( وهو ربيعة الرأي مولى تيم توفي 136 هـ ) – وكان فقيها مجتهدا بصيرا بالرأي وخطيبا بليغا – أوضاع الفتوى بصراحة " استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم " [4] [ ص: 56 ]

        وممن سجل له رأي في أوضاع عصره السياسية عبد الله بن عروة بن الزبير الأسدي وهو عالم ثقة حيث زاره يعقوب الماجشون وابنه يوسف في داره وذكر يعقوب سوء سيرة بني أمية وما قد لقي الناس منهم وانقطاع آمال الناس من قريش !! فقال عبد الله بن عروة : " أقصر أيها الشيخ فإن الناس لن يبرح لهم أمر صالح في قريش ما لم يلي بنو هـاشم فإذا وليت بنو هـاشم انقطعت آمالهم " [5] فهل كان عبد الله بن عروة وهو يدافع عن قريش قد استمع إلى تلك الإرهاصات بالمدينة التي تشير إلى أن الخلافة قد تفضي إلى محمد بن عمرو بن عطاء الأكبر من بني عامر بن لؤي لهيئته ومروءته وعقله وكماله [6] مما يعكس آملا في التغيير حتى لو بعدت عن الواقع بافتراضها خروج الأمر من قريش.

        وعلى أية حال فقد استعمل اصطلاح " الفقهاء السبعة " و " الفقهاء العشرة " لبيان رؤساء الفقهاء وكان الفقهاء والمحدثون بحكم اهتمامهم بالعلم طلبه ونشره يلتقون ببعضهم في المساجد والبيوت وفقهاء المدينة والمشهورون كانت لهم اجتماعاتهم وقد شكلوا ما يشبه مجلس المحلفين في نظام القضاء الغربي الحديث " كان فقهاء المدينة الذين يصدرون عن رأيهم سبعة.. وكانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا جميعا فنظروا فيها ولا يقضي القاضي حتى ترفع إليهم فينظرون فيها فيصدرون " [7]

        وتعتبر المساجد أهم مراكز تجمع الفقهاء حيث يلتقون ببعضهم ويعقدون حلقات العلم وكان بعضها مشتركا يجلس فيها أكثر من فقيه [ ص: 57 ] فكان أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج ( ت في خلافة المنصور ) من " زهاد عصره وعبادهم وعلمائهم " يجلس ضمن أربعين حبرا فقيها في مجلس زيد بن أسلم العدوي [8]

        وكان ربيعة الرأي له حلقة في المسجد النبوي وكان يشترك معه في حلقته أبو الزناد عبد الله بن ذكوان ( 64 – 130 هـ ) ثم انفصل عنه وجالسه محمد الباقر وجعفر الصادق في حلقته وكان " صاحب معضلات أهل المدينة ورئيسهم في الفتيا " . [9]

        وأحيانا كان الفقهاء يتخذون البيوت مكانا لاجتماعهم فقد كان الفقهاء يجتمعون عند عبد الله بن يزيد بن هـرمز مولى الدوسيين ( ت 145 هـ ) في منزله ببني ليث فيتذاكرون الفقه ويتحدثون [10]

        وكانوا يعتبرون وجوه الناس ويشاركهم المكانة بعض رجالات الدولة كما يشاركهم فيها قادة المعارضة السياسيين.

        حكى شاهد عيان " رأيت عمر بن عبد العزيز يهدم المسجد ومعه وجوه الناس : القاسم وسالم وأبوبكر بن عبد الرحمن بن الحارث وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وخارجة بن زيد وعبد الله بن عبد الله بن عمر يرونه أعلاما في المسجد ويقدرونه فأسسوا أساسه " [11]

        وبالطبع فإن تأثير الفقهاء يتعاظم بتوليهم لأعمال القضاء فيتصل الجمهور بهم بصورة وثيقة ولكن ذلك قد يضعف من التفاف المعارضين [ ص: 58 ] حولهم لما بين القضاء والحكم من ارتباط إذ كان " ولاة المدينة هـم الذين يختارون القضاة ويولونهم " [12] وقد اشتغل تسعة عشر فقيها من فقهاء المدينة في القضاء وهو أمر طبيعي فإن الفقهاء هـم المؤهلون لشغل هـذه الوظيفة ويبدو أن بعضهم اشتغل قاضيا حسبة ولم يكن يتقاضى مرتبا كما هـو شأن عمر بن خلدة الزرقي قاضي المدينة في خلافة عبد الملك بن مروان " ولم يرتزق على القضاء شيئا بل باع أرضا له وأنفق ثمنها " [13] وكان مسلم بن جندب الهذلي قاضي المدينة في خلافة عمر عبد العزيز فوضع له عمر مرتبا قدره ديناران " وكان قبل ذلك يقضي بغير رزق " [14]

        ولم يكن العمل في القضاء يحقق مكاسب مالية ذات قيمة، يقول الواقدي الذي عمل في القضاء في عصر المأمون : " لقد كان الرجلان يتقاولان بالمدينة في أول الزمان فيقول أحدهما لصاحبة : لانت أفلس من القاضي !! فصار القضاة اليوم ولاة وجبابرة وملوكا أصحاب غلات وضياع وتجارات وأموال " [15]

        وقد وصل بعض فقهاء المدينة إلى وظائف كبيرة في الدولة الأموية فكان قبيصة بن ذؤيب " على خاتم عبد الملك وكان البريد إليه فكان يقرأ الكتب إذا وردت ثم يدخلها على عبد الملك فيخبره بما فيها " [16]

        كما تولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ولاية مكة ليزيد بن معاوية ثم [ ص: 59 ] عزل عنها لصداقته لعبد الله بن الزبير [17] وتولى ابنه عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد ولاية الكوفة لعمر بن عبد العزيز [18] وعمل اثنان من الفقهاء هما محمد بن مسلم بن شهاب الزهر وصالح بن كيسان كمؤدبين لأولاد الخلفاء [19] في حين اشتغل اثنان من الفقهاء كتابا للخراج



        [20] وعمل آخر موظفا على السوق [21] وآخر كان إمام المسجد النبوي [22] وأحدهم عمل قارئا بالمسجد النبوي.. [23] [ ص: 60 ]

        وهكذا فقد كان معظم فقهاء المدينة لا يتولون أعمالا في الدولة وخاصة الفقهاء السبعة والفقهاء العشرة المشهورين ولكن الأخيرين شكلوا هـيئة استشارية لعمر بن عبد العزيز عندما تولى المدينة فقد دعاهم وقال : ( إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعوانا على الحق ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل في ظلامة فأحرج على أحد بلغه ذلك إلا أبلغني فجزوه خيرا وافترقوا " .

        والفقهاء العشرة هـم : " عروة بن الزبير بن العوام وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجة بن زيد بن ثابت " [24]

        ويبدو أن لهؤلاء الفقهاء الكبار أثرا كبيرا في توجيه عمر بن عبد العزيز وقد ظهرت آثار ذلك بقوة عند توليه الخلافة وتنفيذه مشروعه الإصلاحي فقد كان معجبا بهم وقد صرح مرارا بأنه يرى بعضهم أهلا للخلافة " لو كان عبيد الله حيا ما صدرت إلا عن رأيه " [25] " لو أن القاسم لها – يعني الخلافة - " . [26] [ ص: 61 ]

        ولم يكن عمر بن عبد العزيز في ولايته المدينة قادرا على اتخاذ القرار بحرية في بعض الأمور فلما جاءه أمر الخليفة الوليد بتوسعة المسجد وإدخال حجر أمهات المؤمنين فيه شاور الفقهاء العشرة في ذلك فرأوه أن تبقى الحجرات على حالها ليعتبر بها الناس ويزهدوا في الدنيا فأرسل عمر يراجع الوليد فأصر الوليد على تنفيذ أمره " فلم يجد عمر بدا من هـدمها ولما شرعوا في الهدم صاح الأشراف ووجوه الناس من بني هـاشم وغيرهم وتباكوا مثل يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم " !!

        التالي السابق


        الخدمات العلمية