الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        مواقف الفقهاء

        سجل الفقهاء في الأندلس مواقف مشرفة متنوعة فقد سعوا إلى تثبيت قيم العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان وتثقيف المجتمع بالثقافة الإسلامية ودعم روح المقاومة ضد الأسبان والحفاظ على الهوية الإسلامية والنصح للحكام المسلمين ولعامة المسلمين.

        وقد كان للفقهاء أثر كبير في حركات الجهاد الأندلسية فلما هـدد الفونسوا – ملك قشتالة – مدينة طليطلة أرسل حاكمها المتوكل بن الأفطس القاضي أبا الوليد الباجي يطوف قواعد الأندلس وعواصمها صائحا ومنذرا ومحذرا من عواقب التفرقة والخصام والاقتتال بين الأمراء المسلمين ومؤكدا أن ملك قشتالة سوف يسحق دول الطوائف كلها الواحدة بعد الأخرى ولكن جهودة ذهبت أدراج الرياح ( 3 ) . فكان أن سقطت طليطلة عام 479 هـ ( 1086 م ) . [ ص: 125 ]

        ومن ذلك أثرهم في صمود غرناطة آخر المعاقل الأندلسية المسلمة [1]

        حتى إن أمير غرناطة أبا عبد الله الصغير كان مستعدا لتسليم غرناطة قبل تسجيل صفحات الاستماتة والدفاع عن البلد التي جنح إليها الأمير أخيرا تحت ضغط العامة والفقهاء [2]

        وبعد سقوط الأندلس كان للفقهاء أثر بالغ في المحافظة على الهوية الإسلامية رغم خطورة الأوضاع نتيجة المتابعة المتصلة من قبل محاكم التفتيش فكان الفقهاء يعلمون المورسكيين تعاليم دينهم ويحثونهم على التمسك بها وعدم الانجراف وراء حملات التبشير التي كان يقوم بها الرهبان وقد كانت مهماتهم متنوعة ما بين الوعظ والإرشاد ومساعدة المرضى وكتابة نسخ من القرآن والكتب الإسلامية وجلبها من شمال أفريقيا وجمع الصدقات وتوزيعها على المعوزين والأشراف على ختان الأطفال. [3] وكانت هـذه المهمات صعبة وخطيرة حيث كانت محاكم التفتيش تراقب الأوضاع " وكان مجرد الغسل بانتظام يعتبر في نظر محاكم التفتيش وضوءا يعاقب عليه " ومع ذلك فقد أدى المورسكيون الصلاة الإسلامية سرا حتى وهم في السجون وتحت التعذيب وهم ذاهبون إلى المحرقة [4]

        وقد حافظوا على صوم رمضان لكنهم كانوا يتظاهرون بالإفطار ويبتعدون عن النصارى أثناء الأكل وقد امتنعوا عن شرب الخمر وأكل لحم [ ص: 126 ] الخنزير دون مجاهرة [5] وكانت بعض الطرق التي تكتشف بها محاكم التفتيش ضحاياها من المسلمين.

        وعندما قام الأعراب بسلب 500 مورسكي متجهين إلى تلمسان غضب الفقهاء والعلماء ودعوا إلى معاقبة الأعراب حيث استجاب لهم بعض شيوخ القبائل [6]

        ووقف خمسون عالما ضد المحتلين الأسبان لبعض السواحل المغربية مثل أصيلة ومليلة سنة 1497 " وكان الشيخ محمد بن يحيى البهلولي يقوم بالجهاد في الثغور وعند عودته وجد زوجته توفيت ووجد الناس على وشك الانتهاء من دفنها فقال لهم : مهلا فتقدم وأعاد الصلاة عليها مع أصحابه فتقدم الناس إليه بالنكير في تكرار الصلاة على الجنازة مرتين فقال لهم على البديهة : صلاتكم فاسدة لكونها بغير إمام ! فقال لهم على البديهة : صلاتكم فاسدة لكونها بغير إمام ! فقالوا : كيف يا سيدي ؟ فقال : إن من شروط الإمامة الذكورية وهي مفقودة في صاحبكم لأن الذي لم يتقلد السيف قط في سبيل الله ولم يضرب به ولم يعرف الحرب كما كان نبينا عليه السلام ولم يتصف بالسيرة النبوية فكيف يعد إماما ذكرا ؟ بل إمامكم والله من جملة النساء.. " [7]

        ولما بلغ الشيخ محمد بن يحيى البهلولي خبر الهدنة التي عقدها الوطاسي محمد البرتغالي مع الأعداء آلى على نفسه ألا يلقي السلطان المذكور ولا يمشي إليه ولا يقبل منه العطاء [8] [ ص: 127 ]

        وكان الشيخ رضوان الجنوي يحث أحمد المنصور على تحرير الثغور المغربية المحتلة من قبل الأسبان [9]

        والفقهاء كانوا يجتهدون في النوازل والأحداث العامة تبعا لقواعد الشريعة وحسب فهم الواقع.. ونظرا لأن المعلومات عن الواقع قد لا تصل إليهم كاملة بل أحيانا تكون مشوهة ومنحازة للسلطات العديدة التي تحكم البلاد وهي ليست موحدة ومن هـنا فإن الفتوى التي تصدر عن علماء قطر قد تناقض فتوى علماء قطر آخر رغم وحدة المصادر الشرعية؛ لأن فهم الواقع وتفسير الأحداث خضع لسلطات متعارضة وهذا يتضح في فتوى علماء فاس بجواز مقاتلة المغاربة للأندلسيين المقيمين في سلا والمعمورة " لأنهم حادوا الله ورسوله ووالوا الكفار ونصحوهم ولأنهم تصرفوا في مال المسلمين ومنعوهم من الراتب وقطعوا البيع والشراء على الناس وخصوا به أنفسهم وصادقوا النصارى وأمدوهم بالطعام والسلاح " – كما جاء في فتوى العربي الفاسي – في حين أفتى لصالح الأندلسيين علماء مراكش وعلى رأسهم قاضي الجماعة بها أبو مهدي بن عبد الرحمن السكتاني [10]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية