الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي [الجزء الثاني]

        الدكتور / أكرم ضياء العمري

        صلات الدولة لفقهاء المدينة

        كان الخليفة معاوية بن أبي سفيان أول من وصل فقهاء المدينة بالأموال فقد بعث إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بمائة ألف درهم، فلما دعا معاوية إلى بيعة يزيد بن معاوية قال ابن عمر : " أترون هـذا أراد. إن ديني إذا لرخيص !! " [1]

        واستمرت هـذه السياسة بعده فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وثار عبد الله بن الزبير بمكة دعا الفقيه الجليل عبد الله بن عباس إلى بيعته فأبى عليه فلما علم يزيد بن معاوية أرسل إلى بن عباس يثني عليه ويعده بالصلات ويطلب منه أن يثبط الناس عن ابن الزبير فأرسل إليه ابن عباس كتابا يصارحه فيه بعدم مودته له وعدم مبالاته بصلاته وعدم استعداده لنصرته لما كان من قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بل وهدد بالثأر له [2]

        وقد زار محمد بن الحنفية عبد الملك بن مروان فبايعه وقضى عبد الملك حوائجه. [3] . [ ص: 63 ] وثمة صورة طريفة لتقرب الخليفة من فقهاء المدينة أمام الرأي العام تدل على مستوى العلاقات الشخصية مع بعض الفقهاء وعلى ترفع كبار فقهاء المدينة.. وتواضع الخلفاء لهم وذلك " لما مات سالم بن عبد الله بن عمر احد كبار الفقهاء بالمدينة في سنة خمس ومائة في عقب ذي الحجة حيث صلى عليه الخليفة هـشام بن عبد الملك بالبقيع – وكان يزور المدينة بعد الحد – وكان القاسم بن محمد بن أبي بكر جالسا عند القبر وقد أقبل هـشام ما عليه إلا دراعة فوقف على القاسم فسلم عليه فقام إليه القاسم فسأله هـشام : كيف أنت يا أبا محمد ؟ كيف حالك ؟ قال بخير قال إني أحب والله أن يجعلكم بخير. ورأي هـشام في الناس كثرة فضرب عليهم بعث أربعة آلاف فسمي عام الأربعة آلاف " . [4]

        وكان الخلفاء والأمراء الأمويون يحرصون إذا قدموا المدينة على لقيا العلماء فيها فلما قدم سليمان بن هـشام بن عبد الملك المدينة أتاه الناس فبعث إلى الفقيه أبي حازم فأتاه وساءله عن أمره وعن حاله وقال له : يا أبا حازم ما مالك ؟ قال : الثقة بالله واليأس مما في أيدي الناس. [5] وسأله : ما النجاة من هـذا الأمر ؟ قال : لا تأخذن شيئا إلا من حله ولا تضعن شيئا إلا في حقه. قال هـشام : ومن يطيق ذلك يا أبا حازم ؟ قال : من طلب الجنة وهرب من النار. [6] [ ص: 64 ] وقد عاب أبو حازم على الزهري تقربه من الحكام " كان العلماء فيما مضى يطلبهم السلطان وهم يفرون منهم وإن العلماء اليوم طلبوا العلم حتى إذا جمعوه بحذافيره أتوا به أبواب السلاطين والسلاطين يفرون منهم وهم يطلبونهم " . [7]

        ومن الطبيعي أن تزداد المنح لفقهاء المدينة وعلمائها ومحدثيها في خلافة عمر بن عبد العزيز لتعاطفه الشديد معهم بسبب انتمائه العلمي إليهم وعلاقاته الشخصية معهم فقد قضى دين عاصم بن عمر بن قتادة عالم المغازي المعروف. [8]

        واعتمد عمر بن عبد العزيز على فقهاء المدينة في وظائف عديدة من الولايات والقضاء ووظيفة الخراج فعمل له أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قاضيا أثناء إمارته على المدينة وعمل له واليا على المدينة خلال العصر الأموي.

        والحق أن الإمام الزهري ( 124 هـ ) وثق صلته بالخلفاء الأمويين منذ أن تعرف على عبد الملك بن مروان بواسطة الفقيه المدني قبيصة بن ذؤيب

        وأفاد من هـذه الصلة حيث صار في صحابة الخلفاء وعمل لهم على القضاء وتأديب أولاد هـشام بن عبد الملك وقد نالته أعطياتهم وقضوا ديونه " مرة سبعة عشر ألف دينار قضاها عنه هـشام من بيت المال ومرة أخرى ثمانين ألف درهم " . [ ص: 65 ]

        وكانت أسرة الزهري قبله في صفوف المعارضة.. وقد قطع عنهم الرزق.. وقد استمرت علاقة الزهري بالأمويين حسنة حتى وفاته ولم يكن الزهري محبا للمال بل كان كريما منفقا على الناس وقد اهتم بالنصح للخلفاء وللأمة فحض مسلمة بن هـشام بن عبد الملك في موسم الحج وزيارة المدينة على إكرام أهلها " فقسم الخمس على أهل الديوان وفعل أمورا حسنة " . وقد تدخل في إقناع هـشام بن عبد الملك بخلع الوليد بن يزيد " فكان يقدح فيه ويعيبه موضحا سوء سيرته وفسقه " وأنه " لا يحل لهشام إلا خلعه " وهكذا فإن الزهري عرض نفسه للأخطار عندما اقتضى الصالح العام ذلك حتى عزم الوليد بن يزيد على قتله لكن الزهري مات قبل توليه الخلافة [9]

        ولما عين يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك واليا على المدينة نصحه الزهري بالتزام عمل أهل المدينة ومشاورة علمائها " وهم ينكرون كل شيء يخالف فعليهم فالزم ما أجمعوا عليه وشاور القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله فإنهما لا يألوانك رشدا " . ولكن الوالي لم يأخذ بنصيحته بل " عادى الأنصار طرا وضرب أبا بكر بن حزم القاضي السابق ظلما وعدوانا في باطل " وكان رد فعل الرأي العام بالمدينة قويا " فما بقي مهم شاعر إلا هـجاه ولا صالح إلا عابه " فعزله يزيد بن عبد الملك فصار ذليلا يتكفف الناس !! وجاء الوالي الجديد عبد الواحد بن عبد الله بن بشر " فلم يقدم عليهم وال أحب عليهم وكان يذهب مذاهب الخير لا يقطع أمرا إلا استشار فيه القاسم وسالما " . [10]

        ورغم ما عرف عن الوليد بن يزيد من إفراط فإنه لما استخلف سنة 126 هـ [ ص: 66 ] طلب من فقهاء المدينة القدوم عليه وهم أبو الزناد وعبد الرحمن بن القاسم ومحمد بن المنكدر فقدموا عليه رغم أن خلافته لم تدم سوى خمسة أشهر.

        وهكذا حرص الخلفاء الأمويون على تقريب فقهاء المدينة والاتصال بهم واستفتائهم والإفادة من دعمهم ولئن نجحوا مع بعضهم فإن البعض الآخر سلك سبيل المعارضة للحكم فمنهم من شارك في الثورات ضد الأمويين ومنهم من أعلن آراءه ضد الحكم دون الخروج والثورة ومنهم من أعلن تأييده للحكم صراحة ومنهم من عمل للحكم في الولاية والقضاء وغيرها من الأعمال سواء لجر منفعة خاصة أو لتحقيق الصالح العام وقد سكتت المصادر عن بيان موقف معظم فقهاء المدينة من الأحداث السياسية...

        التالي السابق


        الخدمات العلمية