سادسا: العلماء هم المرجع إذا خلا الزمان من قائم بأمر المسلمين:
يذهب الجويني في بيان دور المؤسسة العلمية أبعد مما تقدم، فنجده يقرر أنه إذا خلا الزمان من قائم بأمر الله، بمعنى أن دولة الإسلام إذا كانت تمر بفترة فراغ سياسي، "فحق على قطان كل بلدة، وسكان كل قرية، أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى، وذوي العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره؛ فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات".
ويؤكد الجويني فقه هذه المسألة في مواضع من "غياثه"، فيقول مرة: "إن كان في الزمان عالم يتعين الرجوع إليه في تفاصيل النقض والإبرام، ومآخذ الأحكام". ويقول أخرى: "فإذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء. وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم، أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك فقد هدوا إلى سواء السبيل، [ ص: 118 ] وصار علماء البلاد ولاة العباد" [1] . حتى في حال خلو الزمان من قائم بأمر المسلمين - بحسب الجويني - فإن الأمور تكون موكولة إلى العلماء.
وعلى الجملة، فإن المؤسسة العلمية في فقه السياسـة الشرعية عند الجويني ذات أثر بارز في تسـديد وتصويب عمل باقي المؤسـسات في الدولة في الإسلام؛ إذ يناط بها أمور كثيرة، بدءا باختيار من يتولى أمر المسلمين، ومرورا بتقديم الدعم التوجيهي والعلمي والاستشاري لسائر مؤسسات الدولة، وانتهاء بخلع ولي الأمر، إذا ظهر منه ما يستوجب الخلع. ناهيك عن الـدور الذي يناط بـهذه المؤسسة حال خلو الزمان عن قائم بأمر المسلمين.
هذا، وقد أفضى البحث في فقه مسائل هذه المؤسسة إلى بيان أن مراجعة العلماء تكون في الأحوال كافة، سواء أكان ولي الأمر بالغا رتبة الاجتهاد، أم لم يكن كذلك، وسواء أكان ولي الأمر مستوفيا لشروط الإمامة أم غير مستوف لها، وسواء وجدنا قائما بالأمر، أو كان الزمان خاليا عمن يقوم بهذا الأمر، ففي هذه الأحوال كلها يكون الرجوع إلى المؤسسة العلمية أمرا لا غنى عنه؛ لما في ذلك من صلاح أمر الأمة، والنأي بقيادتها عن الاستبداد بالرأي، والانفراد في اتخاذ القرارات. [ ص: 119 ]