فصل : وأما وذلك قد يكون من أحد سبعة أوجه : الإكراه بإدخال الضرر والأذى البين على المكره ،
أحدها : القتل ، وهو أعظم ما يدخل به الضرر على النفس ، فإذا هدره في نفسه كان إكراها ، فإن هدر به في غيره ، فلا يخلو حال الغير من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون ممن بينهم بعضية كالوالدين وإن علوا ، والمولودين وإن سفلوا ، فيكون التهديد بقتلهم إكراها لأن البعضية تقتضي التمازج في الأحكام .
والقسم الثاني : أن يكون من غير ذي رحم محرم ، إما أجنبيا أو ذا نسب لا يكون محرما كبني الأعمام وبني الأخوال ، فلا يكون تهديده بقتلهم إكراها ، لأن بين جميع الناس تناسب من بعيد .
والقسم الثالث : أن يكون ذا رحم محرم كالإخوة والأخوات وبنيهما ، والأعمام والعمات دون بنيها والأخوال والخالات دون بنيها ، فهل يكون التهديد بقتلهم إكراها أم لا ؟ على وجهين :
أحدهما : يكون إكراها لثبوت المحرم كالوالدين .
والوجه الثاني : لا يكون إكراها لعدم البعضية كالأبعدين ، فهذا حكم التهديد بالقتل .
[ ص: 233 ] والثاني : الجرح ، إما بقطع طرف أو إنهار دم ، فهو إكراه لما فيه من إدخال ألم ، وأنه ربما سرى إلى النفس .
والثالث : الضرب ، فيكون إكراها لألمه وضرره ، إلا أن يكون في قوم من أهل الشطارة والصعلكة الذين يتباهون في احتمال الضرب ، ويتفاخرون في الصبر عليه فلا يكون إكراها في أمثالهم .
والرابع : الحبس ، فلا يخلو أمره فيه من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يهدده بطول الحبس فيكون إكراها ، لدخول الضرر به .
والثاني : أن يكون قصير الزمان كاليوم ونحوه فلا يكون إكراها لقربه وقلة ضرره .
والثالث : أن لا يعلم طوله ولا قصره فيكون إكراها ، لأن الظاهر في المحبوس على شيء أنه لا يطيق إلا بعد فعله . وحكم القيد ، إذا هدر به كحكم الحبس ، لأنه أحد المانعين في التصرف .
والخامس : أخذ المال ، فلا يخلو من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون كثيرا يؤثر أخذه في حاله فيكون إكراها .
والثاني : أن يكون قليلا ، فلا يؤثر في حاله فلا يكون إكراها .
والثالث : أن يكون كثيرا إلا أنه لا يؤثر في حاله لسعة ماله ، ففي كونه مكرها بأخذه وجهان :
أحدهما : يكون مكرها بقدر المال المنفوس به .
والوجه الثاني : لا يكون إكراها اعتبارا بماله الذي لا يؤثر المأخوذ فيه .
والسادس : النفي عن بلده ، فننظر حاله ، فإن كان ذا ولد وأهل ومال ولا يقدر على نقل أهله وماله معه كان إكراها ، وإن قدر على نقلهما ومكن منهما ففي كونه إكراها وجهان :
أحدهما : لا يكون إكراها لتساوي البلاد كلها في مقامه فيما شاء منها .
والثاني : يكون إكراها ، لأن النفي عقوبة كالحد ، ولأن في تغريبه عن وطنه مشقة لاحقة به .
والسابع : السب والاستخفاف ، فهذا على ضربين :
أحدهما : أن يكون من رعاع الناس وسفلتهم الذين لا يتناكرون ذلك فيما بينهم ولا يغض لهم جاه ، فلا يكون ذلك إكراها في أمثالهم .
والثاني : أن يكون من الصيانات وذوي المروءات ففيه وجهان :
[ ص: 234 ] أحدهما : يكون ذلك إكراها في أمثالهم ، لما يلحقهم من وهن الجاه ، وألم الغلب .
والوجه الثاني : لا يكون إكراها ، لأن الناس قد علموا أنهم مظلومون به ، والأصح عندي من إطلاق هذين الوجهين أن ينظر حال الإنسان فإن كان من أهل الدنيا وطالبي الرتب فيها ، كان ذلك إكراها في مثله : لأنه ينقص ذلك من جاهه بين نظرائه ، وإن كان من أهل الآخرة وذوي الزهادة في الدنيا ، لم يكن ذلك إكراها في مثله ، لأنه لا ينقص ذلك من جاهه بين نظرائه ، بل ربما كان إعلاء لذكره مع كثرة صوابه ، هذا مالك بن أنس ، جرد للسياط فيما كان يفتي به من سقوط يمين المكره ، فكأنما كان ذلك حليا حلي به في الناس ، فهذا حكم الإكراه .