الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والقسم الثاني : أن تكون إجارته بملك ثم تنتقل إلى غيره وهو أنواع : أحدها : أن تنتقل عنه إلى من يملك بالقهر ما يستولي عليه ، فتنفسخ الإجارة لملكه المنافع الباقية منها ، ودخل تحت هذا إذا أجر مسلم شيئا ثم استولى عليه الكفار ، وإذا أجر الحربي شيئا لحربي ثم استولى عليه المسلمون ، أما إن أجر الحربي شيئا لمسلم أو ذمي ثم استولى عليه المسلمون فالإجارة باقية لأن المنافع ملك لمعصوم فلا تملك .

[ ص: 45 ] وثانيها : أن ينتقل الملك إلى من خلفه في ماله ويقوم مقامه ويتلقى الملك عنه فلا اعتراض له على عقوده بل هو منفذ لها وذلك كالوارث والمشتري والمتهب والموصى له بالعين والزوجة إذا أخذت العين صداقا ، أو أخذه منها عوضا عن خلع أو صلحا أو غير ذلك .

وثالثها : أن يكون مزاحما للأول في الاستحقاق ومتلقيا للملك عمن تلقاه الأول ، لكن لا حق له في العين إلا بعد انتهاء استحقاقه كالبطن الثاني من أهل الوقف إذا أجر البطن الأول ثم انقرض والإجارة قائمة وفيه وجهان :

أحدهما : وهو ما قال القاضي في المجرد : أنه قياس المذهب أنه لا تنفسخ ; لأن الثاني لا حق له في العين إلا بعده فهو كالوارث .

والثاني : وهو المذهب الصحيح وبه جزم القاضي في خلافه ، وقال : إنه ظاهر كلام أحمد وابنه أبي الحسين وحكياه عن أبي إسحاق بن شاقلا ، واختاره ابن عقيل وغيره : أنه ينفسخ ; لأن الطبقة الثانية تستحق العين بجميع منافعها تلقيا عن الواقف بانقراض الطبقة الأولى فلا حق للأولى فيه بعد انقراضهم ، بخلاف الورثة فإنهم لا منخريه عن مورثهم إلا ما خلفه في ملكه من الأموال ولم يخلف هذه المنافع ، وحق المالك لم ينقطع عن ميراثه بالكلية بل آثاره باقية ولذلك تقضى ديونه وتنفذ وصاياه من الشركة وهي ملكه على قوله إلى أن تقضى ديونه ، فكيف يعرض عليه في تصرفاته بنفسه ، وأيضا فهو كان يملك التصرف في ماله على التأييد بوقف عقاره والوصية به وبما تحمل شجرته أبدا ، والموقوف عليه بخلافه في ذلك كله .

وخرج صاحب المغني وجها آخر ببطلان العقد من أصله بناء على تفريق الصفقة كما سبق ، لكن الأجرة إن كانت مقسطة على أشهر مدة الإجارة أو أعوامها فهي صفقات متعددة على أصح الوجهين فلا تبطل جميعا ببطلان بعضها ، وإن لم تكن مقسطة فهي صفقة واحدة فيطرد فيها الخلاف المذكور .

واعلم أن في ثبوت الوجه الأول نظرا ; لأن القاضي إنما فرضه فيما إذا أجر الموقوف عليه لكون النظر له مشروطا وهذا محل تردد ، أعني : إذا أجر بمقتضى النظر المشروط له هل يلحق بالناظر العام فلا ينفسخ بموته الإجارات أم لا ؟ فإن من أصحابنا المتأخرين من ألحقه بالناظر العام في ذلك ، وهكذا حكم المقطع إذا أجر أقطاعه ثم انتقلت عنه إلى غيره بإقطاع أحد .

ورابعها : أن يكون مزاحما للأول في استحقاق التلقي عمن تلقى عنه الأول بسبق حقه وتقديمه عليه وهو المشتري للشقص المشفوع إذا أجر ، وقلنا بصحة تصرفاته بالإجارة أو غيرها ، ثم انتزعه الشفيع وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : وهو ما ذكره صاحب المقنع لا تنفسخ الإجارة ، لأن ملك المؤجر ثابت ، ويستحق الشفيع الأجرة من يوم أخذه ; لأنه يستحق انتزاع العين والمنفعة ، فإذا فات أحدهما رجع إلى بدله وهو الأجرة ها هنا ، كما نقول في الوقف إذا انتقل إلى البطن الثاني ولم تنفسخ إجارته إنهم يستحقون [ ص: 46 ] الأجرة من يوم الانتقال ، وكذلك نص أحمد في رواية جعفر بن محمد على مثل ذلك في بيع العين المؤجرة ، وأن المشتري يستحق الأجرة من حين البيع ، وهو مشكل ; لأن المنافع في مدة الإجارة غير مملوكة للبائع فلا يدخل في عقد البيع ، ويجاب عنه بأن البائع يملك عوضها وهو الأجرة ولم يستقر بعد ، ولو انفسخ العقد لرجعت المنافع إليه ، فإذا باع العين ولم يستثن شيئا لم تكن تلك المنافع ولا عوضها مستحقا له لشمول البيع للعين ومنافعها ، فيقوم المشتري مقام البائع فيما كان يستحقه منها وهو استحقاقه عوض المنافع مع بقاء الإجارة ، وفي رجوعها إليه مع الانفساخ ، وهذا هو أحد الوجهين للأصحاب ، وهو مثال نص أحمد المذكور أولا ، وما ذكرنا قبل ذلك من رجوع المنافع إلى البائع عند الانفساخ هو الذي ذكره صاحب المغني .

والثاني : أنه تنفسخ الإجارة بأخذه ، وهو المجزوم به في المحرر ، لما قلنا من ثبوت حقه في العين والمنفعة ، فيملك انتزاع كل منهما ممن هو في يده ، وفارق إجارة الوقف على وجه ، لأن البطن الثاني لا حق لهم قبل انقراض الأول ، وهنا حق الشفيع ثابت قبل إيجار المشتري فينفسخ بأخذه لسبق حقه ، ولهذا قلنا على رواية إن تصرف المشتري في مدة الخيار مراعى ، فإن فسخ البائع بطل ، وأيضا فلو لم تنفسخ الإجارة لوجب ضمان المنافع على المشتري بأجرة المثل لا بالمسمى لأنه ضمان حيلولة ، كما قلنا في أحد الوجهين إذا أعتق عبده المستأجر لزمه ضمان قيمة منافعه فيما بقي من المدة .

والثالث : أن الشفيع بالخيار بين أن يفسخ الإجارة أو يتركها ، وهو ظاهر كلام القاضي في خلافه في مسألة الإعارة وهو أظهر ، فإن الإجارة بيع المنافع ، ولو باع المشتري العين أو بعضها كان الشفيع مخيرا بين الأخذ ممن هو في يده وبين الفسخ ليأخذ من المشتري .

وخامسها : أن ينفسخ ملك المؤجر ويعود إلى من انتقل الملك إليه منه ، فالمعروف من المذهب أن الإجارة لا تنفسخ بذلك ; لأن فسخ العقد له من حينه لا من أصله .

وصرح أبو بكر في التنبيه بانفساخ النكاح لو أنكحها المشتري ثم ردها بعيب ، بناء أن الفسخ رفع للعقد من أصله .

وقال القاضي وابن عقيل في خلافيهما : الفسخ بالعيب رفع للعقد من حينه ، والفسخ بالخيار رفع للعقد من أصله ; لأن الخيار يمنع اللزوم بالكلية ، ولهذا يمنع معه من التصرف في المبيع وثمنه بخلاف العيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية