الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومنها ) لو زوج وليان من اثنين وجهل أسبق العقدين ، ففيه روايتان :

أحدهما : يمين الأسبق بالقرعة ، فمن خرجت له القرعة فهي زوجته ولا يحتاج إلى تجديد عقد ولا يحتاج الآخر إلى طلاق هذا ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل وابن منصور وقد ذكر هذه الرواية في هذا الوجه القاضي في المجرد [ وابن عقيل وغيرهما وذكر القاضي في الجامع ] والخلاف والروايتين وأبو الخطاب وغيرهما : أن الآخر يؤمر بالطلاق كما يطلق في النكاح الفاسد . وفيه ضعف ; فإن هذا لم يتحقق له نكاح منعقد بخلاف الناكح نكاحا فاسدا ، وأيضا فمجرد طلاقه بتقدير أن يكون نكاحه هو السابق لا يفيد حل المرأة للآخر ، فلهذا قال طائفة من الأصحاب : يجدد الذي خرجت عليه القرعة النكاح لتحل له بيقين .

وقد حكى ذلك القاضي في كتاب الروايتين عن أبي بكر أحمد بن سليمان النجاد ثم رده بأنه لا يبقى حينئذ معنى للقرعة فإنه إذا أمر أحدهما بالطلاق وأمر القارع بتجديد النكاح فقد خلت المرأة من زوجيتهما معا ، فلها أن تتزوج من شاءت منهما ومن غيرهما . ولا فائدة حينئذ للقرعة . وهذا بعينه قول من يقول بفسخ نكاحهما كما سيأتي . وقال الشيخ تقي الدين لو كان الأمر كما ذكروه لم يبق من الروايتين فرق ولا للقرعة فائدة ، وإنما يجب على رواية القرعة أن يقال : هي زوجة القارع بحيث يجب عليه نفقتها وسكناها ، ولو مات ورثته ، لكن لا يطؤها حتى يجدد العقد فيكون تجديد العقد يحل الوطء فقط .

ولعل هذا قياس المذهب ، أو يقال : أنه لا يحكم بالزوجية إلا بالتجديد ويكون التجديد واجبا عليه وعليها كما كان الطلاق واجبا على الآخر ، قال : وليس في كلام أحمد تعرض لطلاق ولا لتجديد الآخر النكاح فإن القرعة جعلها الشارع حجة وبينة تفيد الحل ظاهرا كالشهادة والنكول ونحوهما مما لا يوقف معه على حقيقة الأمر في الباطن . والمجهول غير مكلف به العباد بل هو في نظر الشرع كالمعدوم ما دام مجهولا ، ونظير هذه الرواية في القرعة أن المشهور من المذهب أن من طلق واحدة من زوجاته ثم أنسيها فإنها تعين بالقرعة ويحل له وطء البواقي فكذلك هاهنا يميز النكاح الصحيح من الباطل بالقرعة ويفيد حل الوطء ولا يقال هناك : الأصل فيمن لم يخرج عليها القرعة بقاء النكاح ولم يتيقن وقوع الطلاق عليها ، وهنا الأصل عدم انعقاد النكاح في كل واحد منهما فلا يباح الوطء بدون تيقن العقد الصحيح لأنا نقول : الاستصحاب بطل بيقين وقوع الطلاق المحرم .

ولهذا أبطل أصحابنا الاستصحاب في مسألة اشتباه الماء الطاهر بالنجس ومنعوا استعمال أحدهم بالتحري لأن الاستصحاب زال حكمه بيقين التنجس . وحينئذ تتفق الصورتان ; لأن في إحداهما اشتبهت الزوجة بالمطلقة ثلاثا وفي الأخرى اشتبه الزوج بغيره وكون أحدهما له أصلا في الحل دون الآخر لا أثر [ ص: 353 ] له عندنا . ولهذا يسوى بين اشتباه البول بالماء الطاهر واشتباه الماء النجس بالطاهر ، ونحن نقول على أحد الوجهين : لو أقر بأن ولد إحدى إمائه ابنه ، ثم مات ولم يعينه بين بالقرعة وإن كان حر الأصل .

واعلم أن القاضي حكى عن أبي بكر بن سليمان النجاد أنه يقرع بين الزوجين فمن قرع أمر صاحبه بالطلاق ثم جدد الآخر نكاحه ، وقرأت بخط القاضي في بعض مجاميعه قال : حكى أبو الحسن الجزري قال سئل أبو علي النجاد عن رجل زوج ابنته على صداق ألف درهم ثم مات الأب قبل دخول الزوج بها ، فحضر ثلاثة رجال كل واحد منهم يقول زوجني أبوك منك على صداق ألف درهم قبضها مني ، وعدم كل واحد منهم البينة في الحال وقالت البنت : أعلم أن واحدا من هؤلاء الثلاثة تزوجني يقينا ولكن لا أعرفه عينا فقال أبو علي النجاد ترفع أمرها إلى الحاكم فيجبر الثلاثة على أن يطلقها كل واحد منهم طلقة واحدة ثم يقترع بين الثلاثة على الألف فأيهم كانت له القرعة أخذ الألف ثم يقال للمرأة : تزوجي أيهم شئت إن أحببت فإن كانت هذه الحكاية مستند القاضي في الحكاية عن النجاد فقد وهم في تسميته ; فإن الحكاية عن أبي علي ونسبها هو إلى أبي بكر بن سليمان وليست المسألة في نكاحين مشتبهين بل في دعوى القرعة فيها إنما هي للمال لا لمحل البضع فلا يصح ماحكاه القاضي عن أبي بكر النجاد بالكلية فليحقق ذلك ، والرواية الثانية يفسخ النكاحان جميعا ثم تتزوج من شاءت منهما أو من غيرهما إذا شاءت نقلها أبو الحارث ومهنا ، وهي اختيار أبي بكر في خلافه والخرقي .

وحكى ابن أبي موسى في المسألة روايتين .

إحداهما يبطل النكاحان .

والثانية : يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة فهي له قال : والأول أظهر وأصح ، وظاهره أن النكاحين يبطلان من غير فسخ ويشهد له ما نقله ابن منصور عن أحمد في وليين زوجا امرأة لا تدري أيهما زوج قبل ، قال ما أرى لواحد منهما هاهنا نكاحا ، ومن الأصحاب من حكى ذلك وجها وقيده بما إذا أمكن وقوعهما معا وقد جعل القاضي في خلافه المذهب كذلك . وأما إن علم وقوعهما معا فهما جميعا باطلان غير منعقدين .

وذكر القاضي في خلافه وفي كتاب الروايتين أن حكمه حكم ما لو وقعا مترتبين وجهل أسبقهما فيه الروايتان .

قال أبو البركات وهذا لا وجه له ولعله خرق الإجماع ، فأما حكم المهر في هذين النكاحين المشتبهين فقد سبق ذكره ، وإن في وجوب نصف المهر على من تخرج القرعة عليه منهما وجهين ، فإن ماتت المرأة قبل الفسخ ففي المغني احتمالان :

أحدهما : يوقف نصف ميراثها أو ربعه حتى يصطلحا عليه .

والثاني : يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنه المستحق وورث .

قال الشيخ تقي الدين : وكلا الوجهين لا يخرج على المذهب ، وأما الأول فلأنا لا نقف الخصومات قط .

وأما الثاني فكيف يحلف من قال : لا أعرف الحال ؟ ، وإنما المذهب على رواية القرعة : أيهما قرعه فله الميراث [ ص: 354 ] بلا يمين ، وأما على قولنا لا يقرع ، فإذا قلنا إنها تأخذ من أحدهما نصف المهر بالقرعة فكذلك يرثها أحدهما بالقرعة بطريق الأولى ، وإما إن قلنا لا مهر فهنا قد يقال بالقرعة أيضا انتهى . وإن مات الزوجان جميعا فلها ربع ميراث أحدهما فإن اتفقت مع أحد الزوجين قبل موته أو مع ورثته أنه هو السابق فالميراث لها منه بغير إشكال ، وإن ادعت أن أحدهما هو السابق وأنكر هو أو ورثته فالقول قولهم مع أيمانهم . فإن نكلوا قضى عليهم وإن لم تقر المرأة بسبق أحدهما ففي المغني احتمالان :

أحدهما : أن يحلف ورثة كل منهما ويبرأ .

والثاني : يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة فلها ربع ميراثه وهذا الوجه الثاني يتعين فيما إذا أنكر الورثة العلم بالحال ، ويشهد له نص أحمد في رواية حنبل وغيره فيمن زوج إحدى بناته من رجل ثم مات الأب ثم مات الزوج ولم يعلم عين الزوجة أنه يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي التي ترثه ، وقد ذكر ذلك صاحب المغني أيضا فيما إذا ادعى كل واحد منهما أنه السابق بالعقد ولم يقر الواحد منهما بذلك ثم ماتا أنه يقرع بينهما ، ويكون لها ميراث من تقع القرعة عليه ولم يذكر فيه خلافا

التالي السابق


الخدمات العلمية