الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ويكره أن يقول الرجل في دعائه : أسألك بمعقد العز من عرشك ) وللمسألة عبارتان : هذه ، ومقعد العز ، ولا ريب في كراهة الثانية ; لأنه من القعود ، وكذا الأولى ; لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش وهو محدث والله تعالى بجميع صفاته قديم . وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا بأس به . وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله لأنه مأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام . روي أنه كان من دعائه { اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك ; ومنتهى الرحمة من كتابك ، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة } ولكنا نقول : هذا خبر واحد فكان الاحتياط في الامتناع ( ويكره أن يقول الرجل في دعائه بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك ) ; لأنه لا حق للمخلوق على الخالق .

التالي السابق


( قوله وكذا الأولى ; لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش وهو محدث . والله تعالى بجميع صفاته قديم ) قال بعض المتأخرين : يرد عليه أن حدوث تعلق صفته تعالى بشيء حادث لا يوجب حدوث تلك الصفة لعدم توقفها على ذلك التعلق ، فإن صفة العز الثابتة له تعالى أزلا وأبدا ، وعدم تعلقه بالعرش الحادث مثلا قبل خلقه لا يستلزم انتفاء عزه ولا نقصانا فيه ، كما أن عدم تعلق كمال قدرته بهذا العالم العجيب الصنع قبل خلقه لا يوجب عدم قدرته أو نقصا فيه . وبالجملة التعلقات الحادثة مظاهر للصفات لا مباد لها ، فالأولى في تقرير الدليل أن يقال كما قال صاحب الكافي ; لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش وأن عزه حادث ، والعز صفته القديمة حيث جعل لزوم كون عزه حادثا داخلا في حيز الإيهام فتأمل ، إلى هنا كلامه . أقول : إن صاحب الكافي وإن جعل لزوم كون عزه حادثا داخلا في حيز الإيهام إلا أنه علل إيهام أن عزه حادث بتعلقه بالمحدث حيث قال : لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش ، وأن عزه حادث لتعلقه بالمحدث ، والعز صفته القديمة لم يزل موصوفا به ولا يزال موصوفا به انتهى .

فكان مدار ما قاله صاحب الكافي أيضا لزوم تعلق عزه بالمحدث فلم يكن فرق بينه وبين ما قاله المصنف في ورود ما ذكره ذلك القائل ، فلا معنى لقوله فالأولى في تقرير الدليل أن يقال كما قاله صاحب الكافي وإن لم ير ذلك القائل قول صاحب الكافي لتعلقه بالمحدث فكون علة قوله : وإن عزه حادث تعلقه بالمحدث ظاهر وإن لم يصرح به ، إذ لا شيء يصلح لأن يكون علة له سواه ، وعن هذا ترى كل من بين وجه الكراهة في الدعاء المذكور من مشايخنا جعل المدار لزوم تعلق عزه بالحادث . قال في المحيط : وأما باللفظ الأول فلأنه يوهم تعلق عزه بالعرش ، وأن عزه حادث إذ تعلق بالمحدث والله تعالى متعال عن صفة الحدوث انتهى .

وقال فخر الإسلام في شرح الجامع الصغير : وإن كان من العقد وهو المعروف في هذا الدعاء فإنه يكره أيضا ; لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش ، وأن عزه حادث إذ تعلق بالمحدث والله تعالى عزيز لم يزل موصوفا به ولا يزال موصوفا به انتهى . إلى غير ذلك من عبارات المشايخ العظام في هذا المقام . ثم أقول في الجواب عما أورده ذلك البعض : الظاهر أن ما هربوا عنه هاهنا ليس إيهام مطلق تعلق عزه تعالى بالمحدث ، إذ قد تقرر في علم أصول الدين أن ظهور المحدثات كلها وبروزها من كتم العدم إلى دائرة الوجود [ ص: 65 ] بحسب تعلق إرادة الله تعالى وقدرته بذلك . والحدوث إنما هو في التعلقات دون أصل الصفات ، ولا نقصان في ذلك أصلا بل هو كمال محض لا يخفى ، فكذا الحال في صفة عزه تعالى وإنما مرادهم بما هربوا عنه إيهام تعلق عزه تعالى بالمحدث تعلقا خاصا ، وهو أن يكون ذلك المحدث مبدأ ومنشأ لعزه تعالى كما يوهمه كلمة " من " في قوله " بمعقد العز من عرشك " إذ الظاهر المتبادر منها في بادئ الرأي أن تكون لابتداء الغاية حتى قال بعضهم : إن جميع معاني من راجعة إلى معنى ابتداء الغاية ، ولا شك أن التعلق بالمحدث على الوجه الخاص المذكور غير متصور في عزه تعالى ولا في صفة من صفاته تعالى أصلا ، وكيف لا يكون مرادهم هذا ولا محالة أنه لا ينبغي أن يخفى على أساطين الفقهاء ما تقرر في علم أصول الدين من جواز تعلق صفات الله بالمحدثات تعلق إفاضة ، ألا ترى أن المحدثات كلها مظاهر صفات الله تعالى وإنما المحال تعلق صفة الله تعالى بالمحدث تعلق استفاضة منه فهو المهروب عن إيهامه فيما نحن فيه بلا ريب




الخدمات العلمية