الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه حلال [ ص: 102 ] وإن اشتد ) وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف

وقال محمد ومالك والشافعي : حرام ، وهذا الخلاف فيما إذا قصد به التقوي ، أما إذا قصد به التلهي لا يحل بالاتفاق

وعن محمد مثل قولهما ، وعنه أنه كره ذلك ، وعنه أنه توقف فيه

لهم في إثبات الحرمة قوله عليه الصلاة والسلام { كل مسكر خمر } وقوله عليه الصلاة والسلام { ما أسكر كثيره فقليله حرام } ويروى عنه عليه الصلاة والسلام { ما أسكر الجرة منه فالجرعة منه حرام } ولأن المسكر يفسد العقل فيكون حراما قليله وكثيره كالخمر

ولهما قوله عليه الصلاة والسلام { حرمت الخمر لعينها } [ ص: 103 ] ويروى { بعينها قليلها وكثيرها ، والسكر من كل شراب } خص السكر بالتحريم في غير الخمر ; إذ العطف للمغايرة ، ولأن المفسد هو القدح المسكر وهو حرام عندنا

[ ص: 104 ] وإنما يحرم القليل منه ; لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير فأعطي حكمه ، والمثلث لغلظه لا يدعو وهو في نفسه غذاء فبقي على الإباحة : والحديث الأول غير ثابت على ما بيناه ، ثم هو محمول على القدح الأخير إذ هو [ ص: 105 ] المسكر حقيقة

والذي يصب عليه الماء بعد ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يرق ثم يطبخ طبخة حكمه حكم المثلث ; لأن صب الماء لا يزيده إلا ضعفا ، بخلاف ما إذا صب الماء على العصير ثم يطبخ حتى يذهب ثلثا الكل ; لأن الماء يذهب أولا للطافته ، أو يذهب منهما فلا يكون الذاهب ثلثي ماء العنب

ولو طبخ العنب كما هو ثم يعصر يكتفى بأدنى طبخة في رواية عن أبي حنيفة ، وفي رواية عنه لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ ، وهو الأصح ; لأن العصير قائم فيه من غير تغير فصار كما بعد العصر .

التالي السابق


( قوله وعنه أنه كره ذلك ) أقول : فيه ضرب إشكال ، وهو أنه قد مر في أول كتاب الكراهية أن كل مكروه حرام عند محمد رحمه الله ، وقوله هنا وعنه أنه كره ذلك بعد أن صرح فيما قبل بأنه حرام عند محمد ومالك والشافعي يقتضي المغايرة بين قول محمد بحرمته وبين قوله بكراهته ، فينافي ما تقرر في أوائل الكراهية

فإن قلت : نعم إن كل مكروه حرام عند محمد ولكن بحرمة ظنية لا بحرمة قطعية فإنه إذا لم يجد نصا قاطعا في حرمة شيء لم يطلق عليه لفظ الحرام بل يطلق عليه لفظ المكروه كما تقرر أيضا هناك

فيجوز أن يكون مدار رواية الحرمة ورواية الكراهة عنه فيما نحن فيه على قطعية الحرمة في إحداهما وظنيتها في الأخرى فلا تنافي بين المقامين

قلت : لا مجال للقول بقطعية حرمة المثلث العنبي عند كون اجتهاد أبي حنيفة وأبي يوسف في حله ; لأن قطعية حرمة الشيء تستلزم أن يكفر مستحلها ، وهذا لا يتصور فيما وقع فيه اجتهاد ما فضلا عما وقع فيه اجتهاد مثل أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعن هذا قالوا فيما سوى الخمر من الأشربة الثلاثة المحرمة عند أئمتنا أجمع وعند عامة العلماء أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها ، ويكفر مستحل الخمر ; لأن حرمتها اجتهادية وحرمة الخمر قطعية كما مر من قبل في الكتاب ، مع أن اجتهاد الإباحة فيها إنما وقع من نحو الأوزاعي وشريك وسائر أصحاب الظواهر ، فتحقق أن الحرمة المروية عن محمد في حق المثلث العنبي إنما هي الحرمة الاجتهادية التي مدارها الظن لا الحرمة القطعية ، فكيف يتصور المغايرة بينها وبين الكراهة على أصل محمد

ويمكن أن يقال : معنى قوله : إن كل مكروه حرام عند محمد : إن كل مكروه كراهة التحريم حرام عند محمد ، لكن لا بدليل قطعي بل بدليل ظني ، خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف فإن المكروه كراهة التحريم ليس بحرام أصلا عندهما بل إلى الحرام أقرب

وأما المكروه كراهة التنزيه فليس بحرام ولا إلى الحرام أقرب عند أحد ، وهذا كله يظهر بمراجعة كتب الأصول ، فيجوز أن يكون المراد بالكراهة في قول المصنف ها هنا وعنه أنه كره ذلك هو الكراهة التنزيهية وهي مغايرة للحرمة على قول الكل فيندفع التنافي بين المقامين تأمل قوله ولهما قوله صلى الله عليه وسلم { حرمت الخمر لعينها } [ ص: 103 ] ويروى { بعينها قليلها وكثيرها ، والسكر من كل شراب } قال في النهاية : ولهما أيضا قوله تعالى { إنما الخمر والميسر } الآية بين الله تعالى الحكمة في تحريم الخمر في هذه الآية وهي الصد عن ذكر الله تعالى وإيراث العداوة والبغضاء ، وهذه المعاني لا تحصل بشرب القليل ، ولو خلينا وظاهر الآية لقلنا لا يحرم القليل من الخمر أيضا ، ولكن تركنا قضية ظاهر الآية في قليل الخمر بالإجماع ، ولا إجماع فيما عداه فبقي على ظاهر الآية انتهى

أقول : ينتقض هذا الاستدلال بما عدا الخمر من الأشربة المحرمة الثلاثة ، فإن قليلها أيضا حرام عند أئمتنا قاطبة وعند مالك والشافعي وأكثر العلماء ، مع أن المعاني المذكورة في الآية المزبورة لا تحصل بشرب قليلها كما لا يخفى ( قوله خص السكر بالتحريم في غير الخمر إذ العطف للمغايرة ) أقول : الظاهر أن مراده بقوله خص السكر بالتحريم في غير الخمر قصر التحريم على السكر في غير الخمر على أن تكون الباء داخلة على المقصور كما في قولهم خصصت فلانا بالذكر على ما تقرر في موضعه ; إذ هو المفيد لمدعاهما ها هنا دون العكس كما لا يخفى على ذي مسكة ، لكن فيه بحث ، وهو أن الاستدلال على مدعاهما في هذا الوجه كما يقتضي حل المثلث يقتضي أيضا حل الأشربة المحرمة الثلاثة غير الخمر ، وهذا ظاهر لزوما وبطلانا ، على أن استفادة قصر التحريم على السكر في غير الخمر من منطوق لفظ الحديث المذكور مشكل ، واستفادته من مفهوم المخالفة خلاف المذهب فليتأمل ( قوله : ولأن المفسد هو القدح المسكر وهو حرام عندنا ) فإن قيل : القدح الأخير إنما يصير مسكرا بما تقدمه لا بانفراده فينبغي أن يحرم ما تقدم أيضا

قلنا : لما وجد السكر بشرب القدح الأخير أضيف الحكم إليه لكونه علة معنى وحكما ، كذا ذكره جمهور الشراح

واعترض صاحب العناية على الجواب المذكور حيث قال : فيه نظر ; لأن الإضافة إلى العلة اسما ومعنى وحكما أولى ، والمجموع بهذه الصفة ا هـ أقول : إن أراد بقوله والمجموع بهذه الصفة أن كل واحد من أجزاء المجموع بهذه الصفة فليس بصحيح ; إذ لا يخفى أن شيئا مما قبل الجزء الأخير ليس بعلة اسما ولا معنى ولا حكما ; إذ العلة اسما ما يضاف إليه الحكم ، والعلة معنى ما يؤثر في الحكم ، والعلة حكما ما يتصل به الحكم ، ولا يتراخى عنه كما عرف كله في علم الأصول ، ولا شك أن شيئا مما قبل الجزء الأخير ليس بصفة من هذه المعاني ، وإن أراد بذلك أن المجموع من حيث هو مجموع بهذه الصفة كما هو الظاهر فهو لا يقدح في مطلوبنا هنا ، إذ لا ننكر حرمة مجموع الأقداح من حيث هو مجموع عند اشتماله على القدح المسكر ، وإنما ننكر حرمة ما قبل القدح المسكر بانفراده

نعم بقي الكلام في أن إضافة الحكم إلى المجموع من حيث هو مجموع أولى أم إلى الجزء الأخير وحده ؟ والظاهر في بادئ الرأي هو الأول ; لأن الجزء الأخير وحده علة ومعنى وحكما لا اسما على ما هو المشهور في كتب الأصول ، والحكم إنما يضاف إلى العلة اسما ، لكن الفاضل التفتازاني قال في التلويح في مباحث العلة من باب الحكم : ذهب المحققون إلى أن الجزء الأول يصير بمنزلة العدم في حق ثبوت الحكم ، ويصير الحكم مضافا إلى الجزء الأخير كالمن الأخير في أثقال السفينة والقدح الأخير في السكر انتهى

وحينئذ يصير الجزء الأخير علة اسما أيضا : أي كما أنه علة معنى وحكما فينتظم أمر إضافة الحكم إليه [ ص: 104 ] وحده بلا غبار ، ثم قال صاحب العناية : والأولى أن يقال : الحرام هو المسكر ، وإطلاقه على ما تقدم مجاز ، وعلى القدح الأخير حقيقة ، وهو مراد فلا يكون المجاز مرادا انتهى

أقول : ليس هذا بشيء فضلا عن أن يكون أولى ; إذ ليس الكلام ها هنا في إطلاق لفظ المسكر على شيء وعدم إطلاقه عليه حتى يفيد التشبيث برجحان الحقيقة على المجاز شيئا بل إنما الكلام هنا في أن المفسد للعقل هو القدح المسكر : أي المزيل للعقل سواء أطلق عليه لفظ المسكر حقيقة أم لا دون غيره من الأقداح المتقدمة فكان الحرام هو القدح المزيل للعقل لا غير

وبالجملة مدار الاستدلال ها هنا على المعنى وهو إزالة العقل دون اللفظ ، فلما ورد السؤال بأن القدح الأخير لا يزيل العقل بانفراده بل بما تقدم فكان لما تقدم من الأقداح مدخل أيضا في إزالة العقل فينبغي أن يحرم أيضا لم يفد أن يقال : إن لفظ المسكر إنما يطلق على ما تقدم مجازا وعلى القدح الأخير حقيقة شيئا في دفع ذلك السؤال أصلا ، وإنما يتمشى ذلك في الجواب عن استدلال الخصم بقوله صلى الله عليه وسلم { كل مسكر خمر }

ومحله قول المصنف ثم هو محمول على القدح الأخير ; إذ هو المسكر حقيقة

وقصد بعض الفضلاء أن يرد على صاحب العناية قوله المذكور بوجه آخر فقال : إطلاقه على ما تقدم على القدح الأخير وما تقدمه مجاز بلا شبهة

وأما إطلاقه على المجموع من القدح الأخير حقيقة وهو مراد فلا يكون المجاز مرادا انتهى

أقول : وهذا أيضا ليس بشيء ; لأن إطلاقه على ما تقدم على القدح الأخير إذا كان مجازا بلا شبهة كيف يتصور أن يكون إطلاقه على المجموع حقيقة ، فإن المجموع مشتمل على ما تقدم على القدح الأخير أيضا ، ولا شك أن إطلاق اللفظ على المجموع المركب مما هو حقيقة فيه ومما هو مجاز فيه لا يكون حقيقة ; لأن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له ، والمجموع المركب مما وضعت له ومما لم توضع له ليس مما وضعت له قطعا

ولو سلم أن يكون إطلاقه على المجموع من حيث هو مجموع حقيقة فلا يضرنا ; إذ لا يلزم من كون المجموع من حيث هو مجموع مسكرا كون المتقدم على القدح الأخير أيضا مسكرا حتى يلزم كون ما تقدم على القدح الأخير حراما أيضا تأمل تقف ( قوله وإنما يحرم القليل من الخمر ; لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير فأعطي حكمه ) أقول : فيه كلام ، وهو أن هذا التقرير يقتضي كون حرمة الخمر معللة ، وقد صرح فيما مر بأن الخمر عينه حرام غير معلول عندنا بشيء ; لأن تعليله خلاف السنة المشهورة وهي قوله صلى الله عليه وسلم { حرمت الخمر لعينها ، والسكر من كل شراب } فكان الذي ينبغي ها هنا أن يقال : وإنما يحرم القليل من الخمر لورود النص فيه وهو قوله عليه الصلاة والسلام { حرمت الخمر لعينها } الحديث ، اللهم إلا أن يحمل كلام المصنف ها هنا على التنزل وإلزام الخصم بأن يكون هذا الكلام منه جوابا عن قول الخصم ، ولأن المسكر يفسد العقل فيكون حراما قليله وكثيره فتبصر ( قوله والحديث الأول غير ثابت على ما بيناه ) قال بعض الفضلاء : وكان على المصنف أن يتعرض للحديثين الأخيرين اللذين رواهما ولم يفعل كأنه اكتفى بمعارضة ما رواه لهما انتهى

أقول : توجيهه ليس بشيء ; لأن دلالة الحديثين الأخيرين اللذين رواهما الخصم [ ص: 105 ] على حرمة قليل ما أسكر كثيره إنما هي بطريق العبارة ، ودلالة ما رواه المصنف من قبل أبي حنيفة وأبي يوسف على حل قليل ذلك إنما هي بطريق الإشارة أو الاقتضاء

وقد تقرر في علم الأصول أن عبارة النص ترجح على إشارة النص واقتضائه عند التعارض ، فإن أراد ذلك القائل بمعارضة ما رواه لهما المعارضة الموجبة للتساقط ، وهي المعارضة بدون الرجحان في أحد الجانبين فليس بصحيح ، وإن أراد بها المعارضة مع الرجحان في جانب الحديثين اللذين رواهما الخصم فليس بمفيد بل مخل كما لا يخفى ( قوله : لأن الماء يذهب أولا للطافته أو يذهب منهما فلا يكون الذاهب ثلثي ماء العنب ) قال الشراح : أي على القطع والبتات

وقال بعض الفضلاء : قوله أي على القطع والبتات فيه بحث ; لأن الحرمة تثبت بالشبهة انتهى

أقول : مدار هذا البحث على عدم فهم مراد الشارح ، فإن مرادهم بقولهم : أي على القطع والبتات تقييد المنفي في قول المصنف فلا يكون الذاهب ثلثي ماء العنب لا تقييد النفي

فالمعنى أن ذهاب ثلثي ماء العنب على القطع والبتات لا يكون ; لأن ذهاب ثلثي ماء العنب لا يكون على القطع والبتات

وحاصله أن ذهابهما القطعي لم يثبت ; لأن عدم ذهابهما قطعي ، فلما لم يثبت ذهابهما على القطع والبتات بل احتمل أن يكون الذاهب أقل منهما بأن يذهب الماء أولا للطافته قلنا بحرمة شرب ذلك العصير احتياطا بناء على أن الحرمة تثبت بالشبهة فلا محل للبحث المذكور

والفرق بين تعلق القيد بالنفي وبين تعلقه بالمنفي في أمثال هذا المقام أصل كبير قد نبه عليه في مواضع شتى من علم البلاغة فكيف خفي على ذلك القائل




الخدمات العلمية