الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      5- الجمعيات الثقافية: وتتوجه بخدماتها إلى أفراد المجتمع كافة، وتشمل خدماتها جوانب الإبداع والبحث العلمي وتشجيعه وحماية المستهلك والبيئة، وغير ذلك من الخدمات في مجال الخدمات الاجتماعية.

      - تحسين أداء الجمعيات الخيرية:

      وإضافـة إلى الخدمات، التي تقدمها الجمعيات الخيرية، مما أشرنا إليه، يقع اليوم على عاتـق الجمعيات مهام جديدة، ومسؤوليات لابد من الاضطلاع بـها وتفعيل مشاركتها لمساندة الجهد التنموي الحكومي، وتجاوز سلبيات التنمية في العقـود الماضية، الأمر الذي يتـطلب إجراء تعديلات جوهرية في هياكل وآليات عمل الجمعيات لمواكبة سرعة التغيرات، التي تشهدها المجتمعات.

      ومن المقترحات، التي يمكن أن تساعد في تحسين أداء الجمعيات الخيرية:

      1- تجديد الأهداف والسياسات والبرامج، وعليه فإن المطلوب من الجمعيات التطوعية ضرورة تجديد أهدافها وسياساتها وتطوير برامجها وتنويعها، [ ص: 117 ] بما يتناسب والمتطلبات المتجددة للمجتمع، وتوسيع مجالات الخدمات الاجتماعية، والارتقاء بمستوى معيشة المواطنين، من خلال تأطير الفئات القادرة، ودمجها في سوق العمل، وتدريبها، والإسهام بمسؤولية، إلى جانب الدولة، في تحقيق التشغيل الكامل للمواطنين.

      2- التجديد التنظيمي للجمعيات التطوعية والذي يشمل تطوير الهياكل التنظيمية وتأهيل وتدريب الكادر الإداري والتطوعي، بما يمكن من تحقيق الأهداف النوعية، التي ترغب الجمعيات التطوعية في تحقيقها.

      3- متابعة واستيعاب التطور في مضامين ومفهوم العمل التطوعي، الأمر الذي سيمكن من انتقاله إلى مرحلة نوعية.

      4- توسيـع دائرة المسـاهمـين في العـمـل التـطـوعـي، وإسـتـحداث وسائل جديـدة، لتـشـجيع المـحـسنـين والمتبرعين والمتطوعين بالمال، أو العمل التطوعي.. ( إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا، فنفح فيه يمينه وشماله، وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرا ) [1] .

      والمراد بالخير الأول المال، كقوله تعالى: ( وإنه لحب الخير لشديد ) (العاديات:8)، أي المال، والمراد بالخير الثاني: طاعة الله تعالى، والمراد بيمينه وشماله ما سبق أنه جميع وجوه المكارم والخير. ونفح -بالحاء المهملة- أي ضرب يديه فيه بالعطاء [2] . [ ص: 118 ]

      وعلى الذين حباهم الله بالمال أن ينفقوا ويتصدقوا من أموالهم، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تصدقوا، فإنه يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم، فلا حاجة لي بها ) [3] ؛ وفي الحديث أيضا: ( اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله ) [4] .

      فيه الحث على الإنفاق في وجوه الطاعة، وفيه تفضيل الغنى مع القيام بحقوقه على الفقر، لأن العطاء إنما يكون مع الغنى [5] .

      وعن أبـي هـريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا ) [6] . فدعاء الملك بالخلف يحتمل الأمرين، وأما الدعاء بالتلف فيحتمل تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال، والمراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها.. والإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات، لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم، بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق، الذي عليه ولو أخرجه [7] . [ ص: 119 ]

      وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله عز وجل: أنفق أنفق عليك، وقال: يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض، فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع ) [8] .

      وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

      ( مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده، حتى تخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها ولا تتسع ) [9] .

      (ثديهما) جمع ثدي. والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره، وطابت نفسه بالصدقة؛ والبخيل إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه، فضاق صدره، وانقبضت يداه، وهناك من قال: إن المراد أن الله يسـتر المنفق في الدنيا والآخرة، بخلاف البخيل فإنه يفضحه [10] .

      5- تفعيل العلاقة بين الجمعيات التطوعية والمستفيدين من خدماتها وذلك بتطوير مهاراتهم وقدراتهم على مواجهة التغيير وصعوبات الحياة المعيشة.

      6- تجديد نظم المعلومات والإحصاء للحصول على بيانات دقيقة وميسرة عن واقع وحجم وتطور العمل التطوعي والمستفيدين منه. [ ص: 120 ]

      7- إعطاء الجمعيات التطوعية الأولوية في ترسيخ الرأسمال الاجتماعي، الذي تقوم على قيم التعاون والصدق والتكافل والتراحم، وتأكيد قيم المشاركة الأهلية في التنمية المستدامة.

      ( من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه ) [11] .

      قال العلماء: معنى البسط في الرزق البركة فيه، وفي العمر حصول القوة في الجسد؛ لأن صلة أقاربه صدقة، والصدقة تربي المال وتزيد فيه، فينمو ويزكو [12] . وقد يكون المعنى أن تحسن إلى أقاربك وذوي رحمك بما تيسر على حسب حالك وحالهم، من إنفاق أو سلام أو زيارة أو طاعة أو غير ذلك، وخص هذه الخصلة من بين خلال الخير نظرا إلى حال السائل، كأنه كان لا يصل رحمه، فأمره به؛ لأنه المهم بالنسبة إليه، ويؤخذ منه تخصيص بعض الأعمال بالحض عليها، بـحـسب المخاطب وافتقاره للتنبـيـه عليها أكثر مـمـا سـواهـا، إما لمشقتها عليه وإما لتسهيله في أمرها [13] .

      8- تفعيل مشاركة الجمعيات التطوعية في التنمية، من خلال التحول التدريجي من مشاريع الرعاية الاجتماعية إلى مشاريع تنموية من خلال الاهـتـمـام ببرامج التـأهيل والتـدريـب، وتشجيـع إقامة المشاريع الصغيرة المدرة للدخل. [ ص: 121 ]

      9- تطوير التشريعات المنظمة للعمل التطوعي بما يواكب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وبما يحقق التنسيق والتكامل والفاعلية لهذا القطاع.

      10- العمل على تطوير ميثاق أخلاقي وميثاق للممارسة تتبناه الجمعيات الأهلية يستند بشكل أساسي على شرعية واستمرارية عمل الجمعيات التطوعية واستقلاليتها والالتزام بقيم المحاسبة والمساءلة والشفافية [14] ؛ لأن نجاح أي عمل من الأعمال الخيرية يستلزم توافر إرادة النجاح عند القائمين عليه، كما يتطلب المشاركة التطوعية لأبناء المجتمع في إنماء العمل التطوعي والخيري، ذلك لأن الأعمال التطوعية لا يمكن أن تنجح بدون تفاعل المجتمع معها والمشاركة فيها وتشجيع القائمين عليها، وهذا بدوره يستدعي نشر وتعميم ثقافة التطوع في البيئة الاجتماعية.

      ولعل أفضل منهج تقوم عليه ثقافة التطوع في الإسلام هو مبدأ التسامح والتيسـير والتسـهيل على النـاس، فإن لم تكن ثقافة الطوع مبنية على اليسـر ربما ابتعد الناس عنها، ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) [15] .

      قوله : ( ولا تعسروا ) الفائدة فيه التصريح باللازم تأكيدا -إذ-لو اقتصر على يسروا لصدق على من يسر مرة وعسر كثيرا، فقال : ( ولا تعسروا ) لنفي التعسير في جميع الأحوال... [16] . [ ص: 122 ]

      إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتـصر على يسـروا لصـدق ذلك على من يسر مرة أو مرات، وعسر في معظم الحالات، فإذا قال: ( ولا تعسروا ) انتفى التعسير في جميع الأحوال: من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في ( يسرا ولا تنفرا ) ( وتطاوعا ولا تختلفا ) ؛لأنهما قد يتطاوعا في وقت ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء.. وفي هذا الحديث: الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخـويـف وأنواع الوعيد محضـة من غـير ضمها إلى التبشير.. وفيه تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف بهم، ويدرجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا، وقد كانت أمور الإسـلام في التكليف على التدريج، فمتى يسر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه، وكانت عاقبته غالبا التزايد منها [17] .

      وعن أبي هـريرة، رضي الله عنه، قال: أتى رجل رسـول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، أصـابني الجهـد.. فأرسـل إلى نسـائه فـلم يجد عندهن شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا رجل يضيفه هذه الليلة، يرحمه الله؟ ) فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت [ ص: 123 ] الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشـاء فنوميهم، وتعالى فأطفئي السـراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( لقد عجب الله عز وجل - أو ضحك - من فلان وفلانة ) [18] فأنزل الله عز وجل: ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (الحشر:9).

      هذا الحديث مشتمل على فوائد، كثيرة منها:

      ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من الزهد في الدنيا، والصبر على الجوع وضيق حال الدنيا، ومنها أنه ينبغي لكبير القوم أن يبدأ في مواساة الضيف ومن يطرقهم بنفسه فيواسيه من ماله أولا بما تيسر، إن أمكنه، ثم يطلب له على سبيل التعاون على البر والتقوى من أصحابه.

      ومنها المواساة في حال الشدائد، ومنها فضيلة إكرام الضيف وإيثاره، ومنها منقبة لهذا الأنصاري وامرأته، ومنها الاحتيال في إكرام الضيف إذا كان يمتنع منه، رفقا بأهل المنزل.. وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل وامرأته فدل على أنهما لم يتركا واجبا بل أحسنا وأجملا، وأما هو وامرأته فآثرا على أنفسهما برضاهما مع حاجتهمـا وخصاصتهما، فمدحهما الله وأنزل فيهما: ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (الحشر:9)، ففيه فضيلة الإيثار، والحث عليه، وقد أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفوس [19] . [ ص: 124 ]

      وهذا أنصاري [20] آخر يكرم الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه ، قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم - أو ليلة - فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ( ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ ) قالا: الجوع يا رسول الله، قال: ( وأنا، والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا ) فقاموا معه، فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة، قالت: مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أين فلان؟ ) قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني، قال: فانطـلق، فجاءهم بعذق [21] فيه بسر [22] وتمر ورطـب، فقـال: كلـوا من هذه، وأخذ المدية [23] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياك والحلوب ) فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وعمر: ( والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم ) [24] . [ ص: 125 ]

      هذا الحديث، فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه، رضي الله عنهم، من التقلل من الدنيا وما ابتلوا به من الجوع وضيق العيش في أوقات.. ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يزل يتقلب في اليسار والقلة حتى توفي صلى الله عليه وسلم ، فتارة يوسر وتارة ينفد ما عنده، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير" [25] .

      وعن السـيدة عائشـة، رضي الله عنها، قالت: "ما شـبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة، من طعام البر ثلاث ليال تباعا، حتى قبض". [26] فكان صلى الله عليه وسلم في وقت يوسر، ثم بعد قليل ينفد ما عنده، لإخراجه في طاعة الله من وجوه البر وإيثار المحتاجين وضيافة الطارقين.. وهكذا كان خلق صاحبيه، رضي الله عنهما، بل أكثر أصحابه.

      وكان أهل اليسار من المهاجرين والأنصار مع برهم له صلى الله عليه وسلم وإكرامهم إياه وإتـحـافه بالطـرف وغيرها، ربـما لم يعرفوا حاجتـه في بعض الأحيان؛ لكونـهم لا يعرفون فراغ ما كان عنده من القوت بإيثاره، ومن علم ذلك منهم ربما كان ضيق الحال في ذلك الوقت، كما جرى لصاحبيه، ولا يعلم أحد من الصحابة حاجة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو متمكن من إزالتها إلا بادر بإزالتها، لكن كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عنهم إيثارا لتحمل المشاق وحملا عنهم، وقد بادر أبو طلحة حين قال: سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف فيه الجوع إلى إزالة تلك الحاجة... [ ص: 126 ] وكذلك كان بعضهم يوثر بعضا، ولا يعلم أحد منهم ضرورة صاحبه إلا سعى في إزالتها، وقد وصفهم الله تعالى بذلك فقال تعالى: ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) وأما قولهما (الجوع) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وأنا، والذي نفسـي بيده، لأخـرجني الذي أخرجكـما ) فمعناه: أنهما لما كانا عليه من مراقبة الله تعالى ولزوم طاعته والاشتغال به فعرض لهما هذا الجوع، الذي يزعجهما ويمنعهما من كمال النشاط للعبادة، وتمام التلذذ بها، سعيا بإزالته بالخروج في طلب سبب مباح يدفعانه به، وهذا من أكمل الطاعات، وأبلغ أنواع المراقبات، وقد نهي عن الصلاة بحضرة طعام تتوق النفس إليه، وفي ثوب له أعلام وغير ذلك مما يشغل قلبه، ونهي القاضي عن القضاء في حال غضبه وجوعه وهمه وشدة فرحه وغير ذلك مما يشغل قلبه ويمنعه كمال الفكر.

      وفي هذا الحديث فوائد، منها استحباب حمد الله تعالى عند حصول نعمة ظاهرة، ومنها استحباب إظهار البشر والفرح بالضيف في وجهه، وحمد الله تعالى على حصول هذه النعمة، وهو يسمع، والثناء على ضيفه [27] .

      ومن يقرأ هذه القصـة يحزن حقا لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من ضيق العيش.. ولكن عندما يقرأ جوابه صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه ، حين رآه في موقف آخر مشابه لما ذكرنا سالفا، فإنه يفرح وتطمئن نفسه، [قال] عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه : "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو على حصير، قال: فجلسـت، فإذا عليه إزار، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، [ ص: 127 ] وإذا أنا بقبضة من شعير، نحو الصاع، وقرظ [28] في ناحية في الغرفة، وإذا إهاب معلق، فابتـدرت عينـاي، فقال: ( ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ ) فقلت: يا نبي الله، ومالي لا أبكي؟ وهذا الحصـير قد أثر في جنبـك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذلك كسرى، وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته، وهذه خزانتك، قال: ( يا ابن الخطاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة، ولهم الدنيا؟ ) قلت: بلى [29] .. ولا يغيـب عـن الأذهـان هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عـرض عـليه ربه أن يجعـل له بطحاء مكة ذهبا، فكان جوابه (لا يا رب)، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : ( عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلـت: لا يا رب، ولكن أشبـع يوما وأجـوع يوما - أو قـال ثلاثا أو نحو هذا - فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك ) [30] .

      والمشـاركة في العمل التطـوعي لها أبعاد متـنوعة، ولكنها تصـب جميعها في إنماء مؤسسات الخدمة الاجتماعية والإنسانية، من جمعيات خيرية ولجان كفالة اليتيم وغير ذلك من مؤسسات ومشاريع خيرية تطوعية، تعمل كلها لصـالح إنـماء العمل التطوعي في المجتمـع، ويمكن تحديد أهم أنواع المشاركة في العمل التطوعي في الأبعاد التالية: [ ص: 128 ]

      - المشاركة المعنوية، وتتمثل في دعم المشاريع التطوعية معنويا، وذلك من خلال الوقوف المعنوي مع أي مشروع خيري، سواء بالتشجيع أو بالتعريف به في المحافل العامة..

      - المشـاركة المـالية، وتتمـثل كذلك في دعم المشـاريع الخيرية بالمال، ومما لاشك فيه أن المال يمثل أهم مقومات نجاح الأعمال الخيرية.

      - المشاركة العضوية، عبر انتساب الأشخاص لإحدى مؤسسات الخدمة الاجتماعية، وهذا يتطلب الجهد والتضحية بالوقت وممارسة التفكير الجاد وشحذ الهمم من أجل خدمة المجتمع، وتقوية العمل الخيري، والممارسة التطوعية بما يخدم الشأن الاجتماعي العام.

      ولكي تتقدم المسيرة التطوعية لمؤسسات الخدمة الاجتماعية، ينبغي أن يشارك كل فرد بما يستطيع من ألوان المشاركة في العمل التطوعي بما ينمي الحركة التطوعية في المجتمع، ويرفع من مستوى المؤسسات الخيرية وقدرتها على العطاء والإنتاج والفاعلية، ويرتقي بالأعمال التطوعية إلى مستوى متقدم من العمل والإنجاز المتميز [31] .

      وهناك مجالات عديدة يمكن من خلالها نفع الآخرين وتقديم العون لهم، ومن أهم هذه المجالات: [ ص: 129 ]

      - المجالات العلمية، كإنشاء المكتبات والمدارس، وسائر المؤسسات العلمية التي لا يكون هدفها الربح المالي، ثم القيام عليها ودعمها.

      - المجالات المالية، التي تتطلب دفع المال وتقديمه بسخاء من أجل نفع الناس ومساعدتهم.

      - المجالات الحرفية، من خلال التطوع فيما يتضمن من أنواع الحرف المفيدة، بالإضافة إلى المجالات الإدارية، فعلى المتطوع أن لا يستصغر أي عمل يعين به وينفع من هو بحاجة إليه: ( يعتمل بيده، فينفع نفسه، ويتصدق ) قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: ( يعين ذا الحاجة الملهوف ) [32] .

      كذلك ضرورة وأهمية التخصص للعمل الخيري في العالم العربي والإسلامي، ويلزم لأجل ذلك أن تعمل مؤسسات وجمعيات العمل الخيري بكل شفافية ووضوح في مجال تخصصاتها العلمية والتعليمية والتربوية والصحية والإغاثية، وأن لا تقحم نفسها في المجالات الأخرى، أو تزج بأموال المحسنين في مجالات غير مجالاتها، التي تخصصت بها وأعلنتها.

      فلتقدم أموال المحسنين إلى أصحابها ومن هم في أمس الحاجة إليها من الفقراء والمعوزين، وليكونوا مثل ما قال ابن عمر، رضي الله عنهما.. قال: سمعت عمر يقول:

      "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالا، فقلت: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خذه، فتموله، وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل [ ص: 130 ] فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ) [33] .

      لابد من المبادرات القوية من قبل المؤسسات والجمعيات الخيرية والأهلية بطرح أعمالها وأنشطتها بقوة، وخاصة الجانب الإعلامي والعلمي، من خلال عقد المؤتمرات والندوات الداخلية والخارجية والمشاركات الفعالة مع نظيراتها العالمية، وأن تمارس مؤسسات القطاع الخيري دورها بالمبادرة في صناعة الأحداث وصياغة الإخبار عن نفسها وبرامجها وأعمالها، لتكون على مستوى صناعة الإعلام متبوعة لا تابعة.

      ولا بد من الدعم المتبادل بين الجمعيات والجامعات والأكاديميين والمتخصصين في إثراء وإشباع النقص الظاهر في أدبيات العمل الخيري، ليصبح جزءا من ثقافة المجتمع، إذ يعتبر العمل الخيري المؤسسي، كما تعتبر مؤسساته صمام أمان من كوابح وضوابط الاجتهادات الفردية، فالعمل المؤسسي يعتبر الحصن المنيع والسياج الواقي للأمم والدول من الإرهاب المذموم، بحكم أنه يوفر المناخ الآمن نفسيا واجتماعيا، كما أنه يشكل مزارع وقنوات لاحتضان وحماية وتنمية العمل الإيجابي والإنتاج السليم، بالوقاية والمعالجة للجهل والفقر والمرض، ورفع الظلم بأنواعه عن الأفراد والمجتمعات [34] . [ ص: 131 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية