الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - خامسا: إخلاص النية:

      ويتجسد فعل الخير من خلال خلوص النية في العمل، وتقوية الروابط الأخلاقية، وبيان فضل الإخلاص في العمل، وماله من جزاء محمود عند الله، في الدنيا والآخرة، مهما صغر ذلك العمل في عين صاحبه، وحسبنا هنا أن نشير إلى حديث الثلاثة، أصحاب الغار، الذين سدت عليهم الصخرة، فتوسل كل واحد منهم إلى الله عز وجل بعمل رأى أنه أخلص فيه النية لله، قائلا: اللهم! إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فرج عنا ما نحن فيه، ففرج الله كربتهم، وأخرجهم من الغار سالمين ببركة نيتهم وإخلاصهم في عملهم.

      وهذه القصة أوردها البخاري في حديث طويل، عن ابن عمر، رضي الله عنهما [1] ، يمكن الرجوع إليها في الصحيح، ولكن نشير إلى بعض ما فيها من معان قيمة.. ففي الحديث فضل الإخلاص في العمل، وفضل بر الوالدين، وخدمتهما، وإيثارهما على الولد والأهل، وتحمل المشقة لأجلهما...

      وفيه فضل العفة والانكفاف عن الحرام مع القدرة، وأن ترك المعصية يمحو مقدمات طلبها، وأن التوبة تجب ما قبلها.. [ ص: 86 ]

      وفيه جواز الإجارة بالطعام المعلوم بين المتاجرين، وفضل أداء الأمانة، وإثبات الكرامة للصالحين.. وفيه أن المستودع إذا اتجر في مال الوديعة كان الربح لصاحب الوديعة.. وفيه الإخبار عما جرى للأمم الماضية ليعتبر السامعون بأعمالهم، فيعمل بحسنها ويترك قبيحها [2] .

      وفي الحديث: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصـيبها، أو إلى امرأة ينـكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) [3] .. وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث.. وليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة منه.. كونه ثلث العلم، بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسـانه وجـوارحـه، فالنية أحد أقسـامها الثـلاثة وأرجحها؛ لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد نية المؤمن خير من عمله، فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين [4] .

      وفي حديث آخر: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم، وقلوبكم ) [5] . والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن خير العمل أدومه، وإن قل ) [6] . [ ص: 87 ]

      وعن السيدة عائشة، رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم، أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: ( إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا ) [7] .. فيغضب من جهة أن حصول الدرجات لا يوجب التقصير في العمل، بل يوجب الازدياد شكرا للمنعم الوهاب، كما قال: في الحديث الآخر: ( أفلا أكون عبدا شكورا ) [8] . وإنما أمرهم بما يسهل عليهم ليداوموا عليه، كما في الحديث: ( ... واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ) [9] . فيكون المعنى: كان إذا أمرهم بعمل من الأعمال أمرهم بما يطيقون الدوام عليه.

      -وفي الحديث السابق: ( إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا ) فوائد:

      الأولى: أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية من رفع الدرجات ومحو الخطيئات، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم استدلالهم ولا تعليلهم من هذه الجهة، بل من الجهة الأخرى.

      الثانية: أن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها كان ذلك أدعى له إلى المواظبة عليها، استيفاء للنعمة، واستزادة لها بالشكر عليها. [ ص: 88 ]

      الثالثة: الوقوف عند ما حد الشارع من عزيمة ورخصة، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له.

      الرابعة: أن الأولى في الـعبـادة القـصـد والمـلازمة، لا المبـالغـة المفضية إلى الترك.

      الخامسة: التنبيه على شدة رغبة الصحابة في العبادة طلبهم الازدياد من الخير.

      السادسة: مشروعية الغضب عند مخالفة الأمر الشرعي، والإنكار على الحاذق المتأهل لفهم المعنى إذا قصر في الفهم تحريضا له على التيقظ.

      السابعة: جواز تحدث المرء بما فيه من فضل بحسب الحاجة لذلك عند الأمن من المباهاة والتعاظم.

      الثامنة: بيان أن لرسـول الله، صلى الله عليه وسلم ، رتبة الكمال الإنسـاني لأنه منحصر في الحكمتين العلميـة والعمليـة، وقد أشـار إلى الأولى بقوله: ( أعلمكم ) وإلى الثانية بقوله: ( أتقاكم ) [10] .

      ومن خصائص العمل الخيري في الإسلام: أنه لا يقبل عند الله ما لم يكن خالصا للخير، لا تشوبه شائبة؛ وذلك يتحقق بأن تكون بواعثه دينية وأخلاقية، لا دنيوية ولا مادية.. ولا يجوز في الإسلام أن يصل إلى الخير بطريق الشر، فإن الإسلام يرى كل الأشياء والتصرفات بالمعيار الأخلاقي، ولا يفصل بين الأخلاق والحياة في شأن من الشؤون. [ ص: 89 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية