الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      أولا: مسوغات العمل التطوعي ودوافعه في سياق النص النبوي:

      قبل أن أبين مسوغات العمل ودوافعه أشير إلى أن كلمة (عمل ) وردت في القرآن الكريم (275 مرة).. وسأكتفي هنا بذكر بعض الآيات التي تبين قيمة العمل، منها قوله تعالى:

      ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير ) (البقرة:110)؛ وقوله تعالى: ( إن الذين آمنوا [ ص: 23 ] وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (البقرة:277)؛ وقوله تعالى: ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) (آل عمران:195)؛ وقوله: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) (التوبة:105)؛ وقوله: ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) (يونس:14).

      أما عن مسوغات العمل التطوعي:

      فلو تتبعنا النصوص الأصلية التي استعمل فيها لفظ العمل بالمعنى الاقتصادي لوجدنا أن بعضها يدل على معنى العمل الجسمي أو اليدوي كالحديث الصحيح القائل: ( ما أكل أحد طعاما قط، خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام، كان يأكل من عمل يده ) [1] .

      والمراد بالخيرية ما يستلزم العمل باليد من الغني عن الناس، وفي الحديث فضل العمل باليد وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره، والحـكمة في تخصيـص داود بالـذكر أن اقتـصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة لأنه كان خليفة في الأرض، كما قال الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريـق الأفـضـل، ولهـذا أورد النبي صلى الله عليه وسلم قصته في مقـام الاحتجـاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد، وهذا بعد تقرير أن شرع من قبلنا شرع لنا، ولا سيما إذا ورد في شرعنا مدحه وتحسينه [2] . [ ص: 24 ]

      واستعمل لفظ العمل للولايات، أي لوظائف الدولة، من هذا المعنى الحديث القائل: ( من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ) [3] .. ونجد أن الألفاظ الدالة على العمل والحرفة مستعملة للدلالة على أعلى مناصب الدولة، كما ورد في صحيح البخاري تحت عنوان: (باب كسب الرجل وعمله بيده)، فذكر عن السـيدة عائشـة، رضي الله عنها، أنه لما اسـتخلف أبو بكر الصديق، قال: فاستعمل لفظ احترف من الحرفة، وهي الصنعة: "لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه" [4] .

      ويفضل عمل اليد سائر المكاسب إذا نصح العامل، ومن فضل العمل باليد الشغل بالأمر المباح عن البطالة واللهو وكسر النفس بذلك والتعفف عن ذل السؤال والحاجة إلى الغير، ومعنى: (احترف لهم)، أي اتجر لهم في مالهم حتى يعود عليهم من ربحه بقدر ما أكل أو أكثر وليس واجبا على الإمام أن يتجر في مال المسلمين بقدر مؤونته إلا أن يطوع بذلك كما تطوع أبو بكر[5] .

      فكل جهد وعمل مشروع مادي أو معنوي أو مؤلف منهما معا يعتبر عملا في نظر الإسلام، فهذه النظرة مهمة جدا فقد اعتبر الإسلام جميع [ ص: 25 ] الأعمال النافعة من أقلها شأنا كحفر الأرض إلي أعظمها كرياسة الدولة داخلة كلها تحت عنوان (العمل) على تفاوت بينها في النوع والمقدرة المؤهلة لها، مادام العمل في المفهوم الإسلامي يشتمل على عنصرين أحدهما: كونه مشروعا، أي نافعا للناس غير ضار بهم. وثانيهما: أنه يغني صاحبه عن الحاجة إلى غيره ويجعله قادرا على إعالة نفسه وعياله، لذلك فإن الإسلام انسجاما مع هذين الهدفين، اللذين يدعو إلى تحقيقهما، يحض على العمل والسعي لكسب الرزق ونفع الناس، وذلك بطريقتين:

      - الطريقة الأولى: النهي عن السؤال والبطالة ومنعهما، فقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الكسب عن طريق السؤال، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوجـه السـائلين إلى العمل، كما فعل حينما جـاءه فقير يسـأل..

      فقد أخـرج أبو داود: ( أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء"؟.. قال: بلى، حلس (أي بساط) نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشـرب فيه من الماء.. قال: ائتني بهما".. قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسـول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: "من يشتري هذين"؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم.. قال: من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا"؟.. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به" .. فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده، ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما".. [ ص: 26 ]

      فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة.. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع )
      [6] .

      إن هذا الحديث يحتوي خطوات مهمة:

      - إنه لم يعالج السـائل المحتاج بالمعونة المادية الوقتية، كما يفكر كثيرون ولم يعالجه بالوعظ المجرد والتنفير من المسألة، كما يصنع آخرون، ولكنه أخذ بيده في حل مشكلته بنفسه وعالجها بطريقة ناجعة.

      - علمه أن يستخدم كل ما عنده من طاقات وإن صغرت، وأن يستنفد ما يملك من حيل وإن ضؤلت، فلا يلجأ إلى السؤال وعنده شيء يستطيع أن ينتفع به في تيسير عمل يغنيه.

      - وعلمه أن كل عمل يجلب رزقا حلالا هو عمل شريف كريم، ولو كان احتطاب حزمة يجتلبها فيبيعها، فيكف الله بها وجهه أن يراق ماؤه في سؤال الناس.

      - وأرشـده إلى العمل، الذي يناسب شـخصه وقدرته وظـروفه وبيئته، وهيأ له "آلة" العمل الذي أرشده إليه، ولم يدعه تائها حيران.

      - وأعطاه خمسة عشر يوما يستطيع أن يعرف منه بعدها مدى ملاءمة هذا العمل، ووفائه بمطالبه، فيقره عليه، أو يدبر له عملا آخر.. وبعد هذا [ ص: 27 ] الحل العملي لمشكلته لقنه ذلك الدرس النظري الموجز البليغ في الزجر عن المسألة، والترهيب منها، والحدود التي تجوز في دائرتها.

      ( ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم ) [7] ، والمراد أنه يأتي ساقطا لا قدر له ولا جاه، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء بكونه أذل وجهه بالسؤال أو أنه يبعث ووجهه عظم كله، فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به. وفي هذا الحديث أن هذا الوعيد يختص بمن أكثر السؤال لا من ندر ذلك منه، ويؤخذ منه جواز سؤال غير المسلم؛ لأن لفظ الناس يعم [8] .

      لقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه مبدأين جليلين من مبادئ الإسلام:

      المبدأ الأول: أن العمل هو أساس الكسب، وأن على المسلم أن يمشي في مناكب الأرض ويبتغي من فضل الله، وأن العمل - وإن نظر إليه بعض الناس نظرة استهانة- أفضل من تكفف الناس وإراقة ماء الوجه بالسؤال: ( لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) [9] .. وفي رواية أخرى: "والذي نفسي بيده! لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا، فيسأله أعطاه أو منعه" [10] .

      وفي الحديث القسم على الشيء المقطوع بصدقه، لتأكيده في نفس السامع. [ ص: 28 ]

      وفيه الحض على التعفف عن المسـألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسـه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط، ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل.

      وأما قوله: (خير له) فليست بمعنى أفعل التفضيل، إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل، وتسميته الذي يعطاه خيرا وهو في الحقيقة شر [11] .

      - المـبدأ الثـانـي: أن الأصل في سـؤال الناس، وتكففهم هو الحرمة، لما في ذلك من تعرض النفس للهوان والمذلة، فلا يحل للمسلم أن يلجأ للسؤال إلا لحاجة تقهره على السؤال، فإن سأل وعنده ما يغنيه كانت مسألته خموشا في وجهه يوم القيامة [12] .

      ثانيا: عن طريق الحض على العمل والترغيب فيه بوسائل كثيرة، منها الحديث الذي أورده البخاري تحت عنوان: (باب كسب الرجل وعمله بيده): ( ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده ) [13] . [ ص: 29 ]

      وقد دفع الإسلام الناس إلى العمل بطريق ثالث، وهو طريق غير مباشر، بتحميلهم نفقات أوجبها عليهم وألزمهم بها، كالإنفاق على الأقارب، وإيجاب الزكاة في أموالهم، فيضطرهم ذلك إلى العمل والكسب ليقوموا بالإنفاق الواجب، ليتلافوا ما ينقص من أموالهم.. وكذلك بترغيبهم بالعمل بتمليكهم نتائج أعمالهم، كإحياء الموات، أي الأرض غير المزروعة، التي لا مالك لها، فمن أ حياها فهي له، وبتمليكهم المال الناشئ عن كسبهم أو عملهم المشروع، ولو زاد المال عن حاجتهم، فينشط بذلك الراغبون في العمل ويكثر الإنتاج بجميع أنواعه [14] .

      ويعتبر الخبراء أن العمل أساس الاقتصاد، فهو المصدر الرئيس للكسب الحلال، والعمل مجهود شرعي يقوم به الإنسان لتحقيق عمارة الأرض، التي استخلف فيها، والاستفادة مما سخره الله فيها، لينفع نفسه وبني جنسه في تحقيق حاجاته وإشباعها.

      وقد حث الإسلام على السعي والعمل من خلال:

      أ- الامتنان بنعمة تسخير الأرض وما فيها، وطلب الاستفادة منها عبادة لله، قال تعالى: ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ) (الأعراف:10)، وقال تعالى: ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) ( الملك:15). [ ص: 30 ]

      ب - جعل العمل دليلا على صدق التوكل على الله والثقة به، ففي الحديث: ( لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا [15] وتروح بطانا ) [16] ، تغدو وتروح سعيا وحركة، فالعمل النافع للمجتمع الإنساني كله محبوب عند الله، وهو من البر الذي أمرنا أن نتعاون على تحقيقه: ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) (المائدة:2)..

      وهذا التكافل الحضاري أكبر ضامن لتطور الحضارة الإنسانية نحو الأكمل والأفضل والأسعـد [17] . هـذه هي مصـوغـات العمل في الإسلام، فماذا عن مفهوم العمل التطوعي؟

      التالي السابق


      الخدمات العلمية