الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - رابعا: قوة الحافز:

      من محفزات العمل الخيري، أن وراءه حوافز قوية وبواعث حية تدفع المسلم إلى فعله، وتبعث على الدعوة إليه، والاستمرار فيه، والتسابق في تحقيقه. [ ص: 81 ]

      أول هذه الحوافز: ابتغاء مرضاة الله، الحوافز الأخلاقية، البركة والإخلاف في الدنيا.. كما قال تعالى: ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم ) .. (البقرة:265)، ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) (البقرة:261).

      ومما يدخل في ابتغاء مرضاة الله: طلب الجنة وما فيها من ثواب ونعيم وصفه الله تعالى: ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) (السجدة:17) والجنة ليست دار نعيم حسي فقط، بل هي دار الرضوان الأكبر من الله سبحانه كما قال الله عز وجل: ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) (التوبة:72).

      وهذا الحافز الروحي القوي هو الذي دفع كثيرا من الصحابة حين كان ينزل عليهم القرآن، يحثهم على الخير، فسرعان ما تسـتجيب له قلوبهم، وتتحرك إرادتهم بالعمل والتنفيذ، لا يحول دون ذلك حب الدنيا أو شح الأنفس، لأن ثواب الله عظيم، وما عند الله خير وأبقى.

      دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم بشر الأنصارية، رضي الله عنها، في نخل لها، فقال لها: ( من غرس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر؟ ) فقالت: بل مسلم، فقال: [ ص: 82 ] ( لا يغرس مسـلم غرسا، ولا يزرع زرعا، فـيأكل منه إنسان، ولا دابة، ولا شيء، إلا كانت له صدقة ) [1] .

      وفي رواية: ( لا يغرس رجل مسلم غرسا، ولا زرعا، فيأكل منه سـبع أو طائر أو شيء، إلا كان له فيه أجر ) [2] .

      فيه التنويه بقدر المؤمن، وأنه يحصل [ ص: 83 ] له الأجر وإن لم يقصد إليه عينا، وفيه الترغيب في التصرف على لسان العلم والحض على التزام طريق المصلحين، والإرشـاد إلى ترك المقاصـد الفاسـدة، والترغيب في المقاصـد الصالحة الداعية إلى تكثير الثواب، وأن تعاطي الأسباب، التي اقتضتها الحكمة الربانية من عمارة هذه الدار لا ينافي العبادة ولا طريق الزهد ولا التوكل، وفيه التحريض على تعلم السنة ليعلم المرء ماله من الخير فيرغب فيه، لأن مثل هذا الفضل المذكور في الغرس لا يدرك إلا من طريق السنة، وفيه إشارة إلى أن المرء قد يصل إليه من الشر ما لم يعمل به ولا قصد إليه فيحذر من ذلك، لأنه لما جاز حصول هذا الخير بهذا الطريق جاز حصول مقابله [3] .

      وفي الحديث فضـل الغرس والزرع والحض على عمارة الأرض، ومقتضاه أن أجـر ذلك يستـمر ما دام الغرس أو الزرع مـأكولا منه، ولو مات زارعـه أو غارسه، ولو انتقل ملكه إلى غيره، وظاهر الحديث أن الأجر يحصل لمتعاطي الزرع أو الغرس ولو كان ملكه لغيره.. وزاد من الاستغراقية وعم الحيوان ليدل، على سبيل الكناية، على أن أي مسلم كان، يعمل أي عمل من المباح، ينتفع بما عمله أي حيوان كان، يرجع نفعه إليه ويثاب عليه [4] .

      وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل دينار ينفقه الرجل: دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله ) [5] .

      وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عياله، يعفهم وينفعهم الله به.. والبداءة في الإنفاق بالعيال يتناول النفس؛ لأن نفس المرء من جملة عياله، بل هي أعظم حقا عليه من بقية عياله، إذ ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه، ثم الإنفاق على عياله كذلك [6] .

      وورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه : ( كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (آل عمران:92)، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (آل عمران:92) وإن [ ص: 84 ] أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين".. فقال أبو طلحة: أفعل يا رسـول الله، فقسـمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه ) [7] .

      في هذا الحديث استحباب الإنفاق مما يحب، ومشاورة أهل العلم والفضل في كيفية الصدقات ووجوه الطاعات وغيرها، وفيه أيضا أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين [8] .

      ومن هذه الحوافز ما يتعلق بالحياة الدنيا، فمما لا ريب فيه: أن الحوافز المتعلقة بالدار الآخرة وحسن مثوبة الله فيها، هي الحوافز الأقوى والأكثر تأثيرا، ولكن لأن الإسـلام دين يـجـمـع الحسـنـتـين: حسنة الدنيا، وحسنة الآخرة: ( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) (البقرة:201) جعل هناك حوافز للمؤمن في هذه الدار، تحفزه إلى فعل الخير، وإعانة الضعفاء والمحتاجين.

      وذلك مثل البركة، التي يحس بها تملأ حياته، في نفسه أو أهله وماله، وإخلاف الله تعالى عليه ما أنفقه بما هو خير منه وأزكى، أضعافا مضاعفة. يقول عز وجل: [ ص: 85 ] ( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ) (سبأ:39) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا ) [9] .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية