الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - تفعيل العمل التطوعي:

      وأيا كانت الدوافع وراء العمل الخيري التطوعي فإنه يحتاج إلى تطوير وتفعيل، فكيف يمكن إذن تفعيل العمل التطوعي؟ [ ص: 175 ]

      وجد العلماء أن من يقوم بالأعمال التطوعية أشخاص نذروا أنفسهم لمساعدة الآخرين بطبعهم واختيارهم، بهدف خدمة المجتمع، الذي يعيشون فيه، ولكن التطوع كعمل خيري هو وسيلة لراحة النفس والشعور بالاعتزاز والثقة بالنفس عند من يتطوع، لأنه فعالية تقوي عند الأفراد الرغبة بالحياة والثقة بالمستقبل، حتى إنه يمكن استخدام العمل التطوعي لمعالجة الأفراد المصابين بالاكتئاب والضيق النفسي والملل، لأن التطوع في أعمال خيرية للمجتمع يساعد هؤلاء المرضى في تجاوز محنتهم الشخصية والتسامي نحو خير يمس محيط الشخص وعلاقاته ليشعروا بأهميتهم ودورهم في تقدم المجتمع، الذي يعيشون فيه، مما يعطيهم الأمل بحياة جديدة أسعد حالا.

      ويمكن أن نميز بين شكلين من أشكال العمل التطوعي:

      الأول: السلوك التطوعي، ويقصد به مجموعة التصرفات، التي يمارسها الفرد وتنطبق عليها شـروط العمل التطوعي ولكنها تأتي استجابة لظرف طارئ أو لموقف إنساني أو أخلاقي محدد، مثال ذلك أن يندفع المرء لإنقاذ غريق يشرف على الهلاك، أو إسعاف جريح في حالة خطر إثر حادث ألم به - وهذا عمل نبيل لا يقوم به إلا القلة اليوم - في هذه الظروف يقدم المرء عـلى مـمـارسات وتصرفات لغايات إنسانية صرفة أو أخـلاقية أو دينية أو اجتماعية، ولا يتوقع الفاعل منه أي مردود مادي.

      ففي الحديث: ( إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها [ ص: 176 ] فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة... ) [1] .

      في هذا الحديث بيان فضل الله العظيم على هذه الأمة؛ لأنه لولا ذلك كاد لا يدخل أحد الجنة، لأن عمل العباد للسيئات أكثر من عملهم الحسنات، ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من الإثابة على الهم بالحسنة وعدم المؤاخذة على الهم بالسيئة قوله تعالى: ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) (البقرة:286)، وفيه ما يترتب للعبد على هجران لذته وترك شهوته من أجل ربه رغبة في ثوابه ورهبة من عقابه.. وفيه أن الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه جعل العدل في السيئة، والفضل في الحسنة، فضاعف الحسنة ولم يضاعف السيئة، بل أضاف فيها إلى العدل الفضل، فأدارها بين العقوبة والعفو بقوله: ( كتبت له واحدة ) [2] .

      الثاني، يتمثل بالفعل التطوعي، الذي لا يأتي استجابة لظرف طارئ بل يأتي نتيجة تدبر وتفكر، مثاله الإيمان بفكرة حقوق الأطفال بأسـرة مستقرة وآمنة، فهذا الشـخص يتطوع للحديث عن فكرته في كل مجال وكل جلسـة، لا ينتظر إعلان محاضرة ليقول رأيه بذلك، ويطبق ذلك على عائلته ومحيطه.

      وفي ضوء ذلك، فإن العمل التطوعي يتميز بصفتين أساسيتين، تجعلان من تأثيره قويا في المجتمع، وفي عملية التغيير الاجتماعي، هما: [ ص: 177 ]

      - قيامه على أساس المردود المعنوي أو الاجتماعي المتوقع منه، مع نفي أي مردود مادي يمكن أن يعود على الفاعل.

      - ارتباط قيمة العمل بغاياته المعنوية والإنسانية.. لهذا يلاحظ أن وتيرة العمل التطوعي لا تتراجع مع انخفاض المردود المادي، بل بتراجع القيم والحوافز التي تكمن وراءه، وهي القيم والحوافز الدينية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية.

      وعلى مستوى آخر، كما يمكن التمييز أيضا بين شكلين آخرين:

      1 - العمل التطوعي الفردي: وهو عمل أو سلوك اجتماعي يمارسه الفرد من تلقاء نفسه وبرغبة منه وإرادة، ولا يبتغي منه أي مردود مادي، ويقوم على اعتبارات أخلاقية أو اجتماعية أو إنسانية أو دينية، ففي مجال محو الأمية - مثلا - قد يقوم فرد بتعليم مجموعة من الأفراد القراءة والكتابة ممن يعرفهم، أو يتبرع بالمال لجمعية تعنى بتعليم الأميين.. فتعليم العلم والتبرع بالمال أجرهما عند الله كبير.

      وعلى الإنسان أن لا ينظر إلى من فضل عليه في المال، بل عليه أن ينظر إلى من هو أسفل منه، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ) [3] .

      وهذا الحديث جامع لمعاني الخير؛ لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدا فيها إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استصغر حاله، فيكون أبدا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال [ ص: 178 ] خسـيسة من الدنيـا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالا منه، فإذا تفـكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك، من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده [4] .

      2- العمل التطوعي المؤسسي: وهو أكثر تقدما وأعم نفعا من العمل التطوعي الفردي، وأكثر تنظيما وأوسع تأثيرا في المجتمع [5] .

      ونذكر هنا بعض أهم النقاط، التي يمكن أن تساعد في تفعيل العمل الخيري التطوعي وتطويره، بشكل عام:

      - تنشئة الأبناء تنشئة اجتماعية سليمة، وذلك من خلال قيام وسائط التنشـئة المختلفة كالأسـرة والمدرسـة والإعلام بدور منسـق ومتـكامل الجوانب في غرس قيم التضحية والإيثار وروح العمل الجماعي في نفوس الناشئة، منذ مراحل الطفولة المبكرة.

      - تزويد البرامج الدراسية للمؤسسات التعليمية المختلفة ببعض المقررات الدراسية، التي تركز على مفاهيم العمل الاجتماعي التطوعي وأهميته ودوره التنموي، ويقترن ذلك ببعض البرامج التطبيقية مما يثبت هذه القيمة في نفوس الشباب، مثل حملات تنظيف محيط المدرسة أو خدمة البيئة.

      - دعم المؤسسات والهيئات، التي تعمل في مجال العمل التطوعي، ماديا ومعنويا، مما يمكنها من تأدية رسالتها وزيادة خدماتها. [ ص: 179 ]

      - إقامة دورات تدريبية للعـامـلـين في الهيئات والمؤسسـات التـطـوعيـة، مما يؤدي إلى إكسابهم الخبرات والمهارات المناسبة، ويساعد على زيادة كفاءتهم في هذا النوع من العمل، وكذلك الاستفادة من تجارب الآخرين في هذا المجال.

      - التركيز على الأنشطة التطوعية على البرامج والمشروعات، التي ترتبط بإشباع الاحتياجات الأساسية للمواطنين، الأمر الذي يساهم في زيادة الإقبال على المشاركة في هذه البرامج.

      - مطالبة وسـائل الإعلام المختلفة بدور أكثر تأثيرا في تعريف أفراد المجتمع بأهمية العمل التطوعي ومدى حاجة المجتمع إليه وتبصيرهم بأهميته ودوره في عملية التنمية، وكذلك إبراز دور العاملين في هذا المجال بطريقة تكسبهم الاحترام الذاتي واحترام الآخرين.

      - تدعيم جهود الباحثين لإجراء المزيد من الدراسات والبحوث العلمية حول العمل الاجتماعي بشكل عام والعمل التطوعي بشكل خاص.

      - استخدام العمل التطوعي في المعالجة النفسية والصحية والسلوكية لبعض المتعاطين للمخدرات والمدمنين، أو العاطلين أو المنحرفين اجتماعيا.

      - استخدام التكنولوجيا الحديثة لتنسيق العمل التطوعي بين الجهات الحكومية والأهلية لتقديم الخدمات الاجتماعية، وإعطاء بيانات دقيقة عن حجم واتجاهات وحاجات العمل التطوعي الأهم للمجتمع [6] . [ ص: 180 ]

      إضافة إلى تشجيع الشركات والمؤسسات والأفراد، وذلك بوضع قوانين إعفاء ضريبي للمبالغ المتبرع بها وساعات العمل المتطوع بها، وتحفيز مثل هذه الشركات على إقامة مشاريع خيرية اقتصادية تستفيد منها الشركات والأفراد، وأن يكون الأصل في هذا مبدأ: ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) (المطففين:26) وأن يوجد دليل للشركات الرائدة في الأعمال الخيرية تصدره الدولة، وتعطي جائزة عينية لمثل هذه الشركات والأفراد.

      ومن أهم متطلبات تفعيل العمل الخيري، أن تتمتع الجمعيات الخيرية بالقدرة على تفعيل العمل في الوسط الذي تنشط فيه، وسعة الأفق في فهم وإدراك أسلوب الاستفادة من جميع طاقات المجتمع، وإقناع الجميع بالمشاركة فيه، والعمل على استقطاب أكبر عدد ممكن من المتطوعين، إذ إن من مقاييس رقي المجتمعات رصيدها البشري من المتطوعين.

      والإسلام جاء بتشغيل جميع طاقات المجتمع في العمل الخيري، الغني والفقير، القوي والضعيف، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فعل الخير ليست وسيلته المال فحسب، بل كل ما ينفع الناس في أمر دينهم، من عمل الخير، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة ) [7] . [ ص: 181 ]

      فاستقطاب المتطوعين أمر حيوي، إن لم يكن أمرا أساسيا في تفعيل العمل الخيري.. والمتطوعون أنواع:

      - منهم المتطوع بماله: صدقات، تبرعات، قروض, مشاركات في شركاته، تنمية مال...

      - ومنهم المتطوع ببدنه: مراسلات، حرف، تحميل، حراسة...

      - ومنهم المتطوع بجاهه: شفاعات، علاقات...

      - ومنهم المتطـوع بوقته: كل يوم، سـاعة في اليوم، ساعة في الأسـبوع، في المواسم عند الطلب والفزعات...

      - ومنهم المتطوع بفكره: تقديم رأي صائب، استشارة، بحث، دراسات إحصاءات، خطط، نقد، تقويم. وقد يكون من ضمن تلك الاستشارات تقديم النصح والرفق والتلطف في ما يقدمه من إرشاد... والنصيحة لازمة على قدر الطاقة، إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة.

      ويدخل في ذلك نصيحة عامة المسلمين بإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحـب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويـكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من [ ص: 182 ] أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكر من أنواع النصيحة، وتنشيط هممهم إلى الطاعات [8] .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية