الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 102 ] فصل : فأما بيع المدبر وهبته في حياة سيده ، فقد اختلف الفقهاء في جوازه على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب الشافعي أن بيعه جائز في الأحوال كلها في دين ، وغير دين ، سواء كان تدبيره مطلقا أو مقيدا ، وهو في الصحابة قول عائشة رضي الله عنها وابن عمر وجابر ، وفي التابعين قول عمر بن عبد العزيز وعطاء وطاوس ومجاهد ، وفي الفقهاء قول أبي ثور ، وأحمد وإسحاق .

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب مالك ، أنه كالعتق الناجز في المرض لا يجوز بيعه إلا في الدين مقيدا ، كان أو مطلقا .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب أبي حنيفة إن كان تدبيره مقيدا جاز بيعه في دين وغير دين ، وإن كان مطلقا لم يجز بيعه في دين وغير دين ، فجعله لازما إذا أطلق ، وغير لازم إذا قيد ، وهو عندنا غير لازم في الحالين ، احتجاجا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن بيع المدبر .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن كل عتق نجز إطلاقه بموت المعتق ، منع من جواز البيع كأم الولد .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنه لما استفاد بالتدبير اسما غير اسم العبيد ، وجب أن يستفيد به حكما غير أحكام العبيد ؛ لأن انتقال الاسم يوجب انتقال الحكم ، ولو جاز بيعه لبقي على حكمه مع انتقال اسمه ، وهذا غير جائز كالمكاتب .

                                                                                                                                            ودليلنا ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه باع مدبرا على مالكه .

                                                                                                                                            فإن قيل : هو محمول على بيع منافعه بالإجارة قيل : لا يجوز أن يعدل عن حقيقة المذكور إلى مجاز غير مذكور ، ما لم يصرف عنه دليل .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنما باعه في دين ، وقد يباع في الدين ما يمنع من بيعه في غير الدين كالمعتق في المرض ، قيل : لو كان بيعه لا يجوز إلا في الدين لكان بيعه موقوفا على طلب الغرماء ، ولما جاز أن يبيع منه إلا قدر الدين ، وقد باعه كله بثمن دفعه إليه ، وقال له : أنفق على نفسك ، ثم على عيالك ، ثم على ذوي رحمك ، ثم اصنع بالفضل ما شئت فدل على بيعه في الدين وغير الدين . وقد باعت عائشة رضي الله عنها مدبرتها في غير دين ، فدل على جواز بيعه في الدين وغير الدين ، ولأن التدبير قول علق به عتق على صفة تفرد بها فلم يمنع من جواز بيعه كتعليقه بجميع الصفات ، ولأن من جرى عليه حكم التدبير ، جاز بيعه قبل الموت كالتدبير المقيد ، ولأن من كان عتقه معتبرا من ثلثه مع صحته جاز له بيعه قبل عتقه كالموصى بعتقه .

                                                                                                                                            فأما الجواب عما رواه عن نهيه عن بيع المدبر ، فهو أنه من المناكير التي لا تعرف ، ولو صح لكان محمولا على التنزيه بدليل ما فعله من بيعه .

                                                                                                                                            [ ص: 103 ] وأما الجواب عن إلحاقه بأم الولد فهو أنها كالمستهلكة بالإحبال لسرايته إلى حصة الشريك ، ولأن عتق أم الولد لازم لاعتباره من رأس المال كالديون ، وعتق التدبير غير لازم لاعتباره من الثلث كالوصايا فلهذين ما افترقا في جواز البيع .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن أن انتقال الاسم يوجب انتقال الحكم ، فهو أنه موجب لزيادة حكم لم يكن قبل انتقال الاسم ، وقد وجدت الزيادة بعتقه بالموت ، ولم يلزم زوال أحكامه كما لم يلزم زوال استخدامه .

                                                                                                                                            فإذا ثبت جواز بيعه ، جازت هبته وجاز كتابته ، وجاز تعجيل عتقه .

                                                                                                                                            فأما الرجوع في تدبيره مع بقائه على ملكه ، حتى لا يعتق بموته فسنذكره من بعد في موضعه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية