المبحث الثاني: الرحلة لتحصيل العلم والاستفادة من علماء بيت المقدس:
شكل طلب العلم والرغبة في تحصيله إحدى دواعي رحلة المغاربة إلى بيت المقدس، فعلاوة على أن الأعلام المغاربة كانوا أخاديد العلم وأساطينه، غير أنهم خرجوا يتلمسون ما لم يحصلوه في بلادهم، فاشرأبوا إلى مزيد من التكوين العلمي الرصين، ولاسيما في العلوم، التي لا يتقنونها، بحيث لم يكتب لهم الجلوس فيها لأقـطـابها، فتطـلعت هممهم الشـامخة إلى امتلاك ناصـية عـلـوم ربما فـاتهم تداركها لدى مشـايخهم والمتقـنين لها في عقـر ديارهم بالمغـرب والأندلس. [ ص: 48 ]
ولقد كان من ذلك ما تميز به بيت المقدس من مجالس المناظرات بين أقطاب الديانات السماوية الثلاث إلى جانب احتضانه لمختلف الفرق الكلامية كالكرامية والمعتزلة والمشبهة والإمامية، إضافة إلى التناظر بين المدارس الفقهية مثل الشافعية والحنفية [1] ضمن الخلاف العالي والفقه المقارن.
- في مجال علم الكلام وأصول الدين:
كان بيت المقدس فضاء رحبا لحوار الأديان، نظرا لخصوصية المكان، وتعدد التيارات الفكرية به، وكذا مختلف التوجهات العقدية، وقد ساعد ذلكم الجو العام على استيعاب قواعد هذا العلم وامتلاك ناصية مناهجه.
فقد كان العلامة المغربي أبو بكر ابن العربي المعافري مواظبا على حضور مجالس الفرق والطوائف تارة باعتباره طالب علم متعطشا ومستمعا، وتارة أخرى باعتباره متناظرا.
فقد حضر مجلس مناظرة بين التستري اليهودي وأبي بكر الطرطوشي بإفحام اليهودي "فبهت الخصم وانقضى الحكم" [2] .
كما أنه فاوض، رحمه الله، الكرامية والمعتزلة والمشبهة واليهود [3] . [ ص: 49 ]
- في مجال الأصول والخلاف:
لقد عكف ابن العربي على تحصيل الخلاف وأصول الفقه دهرا بالقدس الشريف حيث برع فيه بعض الأساتيذ الفضلاء من مدرستي الحنفية والشافعية. ولما استعصى عليه استيعاب ما دار من مناظرة فقهية بالمدرسة الشافعية عند أول وروده بيت المقدس فقد كان هذا التحدي العلمي عاملا أساسيا في إرجائه، رحمه الله، السفر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج [4] .
وكان فضيلته يتردد كثيرا على مدارس الحنفية والشافعية يوميا "لحضور التناظر بين الطوائف" [5] .
وقد أشار فضيلته، رحمه الله، إلى مناظرة فقهية حضرها بمدرسة أبي عتبة الحنفية بالقدس الشريف [6] .
- في مجال الزهد والسلوك إلى الله:
السلوك إلى الله أو التصوف؛ وقد عد ابن خلدون [7] التصوف من جملة العلوم الشرعية الحادثة على الملة الإسلامية بحيث لم يكن التصوف مصطلحا متداولا عند سـلف الأمة من الصـحابة والتابعين، وأما من حيث الممارسـة فإن الشـائع آنذاك هو الزهـد المبني على الانقطـاع إلى الله تعـالى والإعراض عن الدنيا بزخرفها وزينتها. [ ص: 50 ]
هذا، وقد كـانـت لابن العـربي، رحمه الله، صـفحـات متيـنة من صـبره على شدائد العلم والـتـحـصـيـل، والتـنـقـيـب عن أرباب الصناعـة في مجال الـزهـد والسـلوك إلى الله تعالى، وقد تمكن من بعضهم في رحاب القدس الشـريف والمسـجد الأقـصـى فجـلس إليهم.
وكان من جملة من جالسـهم حقا وصدقا:
- أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي المتبتل (ت 490هـ/ 1097م): لقيه في جمادى الآخرة سنة 486هـ/1093م [8] .
- عطاء المقدسي الزاهد: لقيه بالمسجد الأقصى وسماه شيخ الفقهاء والفقراء، ودار بينهما حديث حول البكاء والتباكي [9] .
- أبو عثمان سعد بن حسان الصوفي الطليطلي: جاور المسجد الأقصى لعدة أعوام، وساح في بلاد المشرق حتى بلغ أقصاه لمدة أربعين سنة، وصحب أقطاب التصوف حتى أصبح مقدما في الصناعة [10] .
- أبو بكر الفهري محمد بن الوليد الطرطوشي (ت 520ه/ 1127م): لقيه بالمسجد الأقصى، ونفع الله به في العلم والعمل [11] . [ ص: 51 ]