الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          المطلب التاسع: نص وثيقة وقف أبي مدين:

                          بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد، فهذا كتاب وقف صحيح شرعي، وحبس صريح مرعي، اكتتبه الفقير إلى الله سبحانه، الراجي عفوه وغفرانه، الشيخ الإمام العالم الفاضل الورع الزاهد الخاشع السالف العارف القدور أبو مدين شعيب بن سيدنا الشيخ الصالح العالم العامل المجاهد أبي عبد الله محمد بن الشيخ الإمام بركة المسلمين حجة الله بقية السلف الصالحين أبي مدين شعيب المغربي العثماني المالكي، نفع الله ببركته وفسح بمدته، وأشهد على نفسه الزكية وهو في صحته أنه وقف وحبس وسبل وأبد وتصدق وحرم وحرر وأكد جميع المكانين الآتي ذكرهما ووصفهما وتحديدهما فيه الجاريين في يد الواقف المذكور وملكه وتصرفه وحيازته إلى حين هذا الوقف، يشهد بذلك من يعينه في رسم شهادته بآخر هذا الكتاب المبارك، واحد المكانين المذكورين وهو قرية تعرف بقرية (عين كارم) من قرى مدينة القدس الشريف، وتشتمل على أراضي معتمل ومعطل وعامر ودائر وأوعار وسهل وصخور ساد الأتراب عليها ولا ينتفع بها بزرع وتشتمل على آثار دور برسم سكني فلاحها وبنيان بأراضيها وبستان صغير وأشجار رمان وغير ذلك يستقى من عين مائها، وأشجار زيتون رومي وخروب وتين وبلوط وقيقب، ولها حدود أربعة تجمعها وتحصرها وتحيط بها: الحد القبلي منها ينتهي [ ص: 128 ] إلى الملاحة الكبرى، والحد الشمالي ينتهي إلى بعض أراضي عين كاووت وقلونية وحاراش وصاطاف وزاوية البختياري، والحد الغربي ينتهي إلى عين الشقاق، والحد الشرقي ينتهي إلى بعض أراضي الملاحة الكبرى وبيت موميل، بجميع حقوقها ومرافقها ومزرعها ومفلحها وأندرها ودمنها والعين الموجودة بها والنزازات والأشجار الثابتة بـها والآبار الخـربة وقـرامي العنب العتيقة الرومية، وما ينسب للقرية المذكورة وبكل حق هو من حقوقها، داخلة فيها وخارجا عنها، منسوب إليها، خلا ما في ذلك من مسجد الله تعالى وطريق المسلمين ومقبرة لهم فإن ذلك خارج عن هذا الوقف وغير داخل فيه، وأما المكان الثاني الموقوف فيه فإنه بالقدس الشريف بخط يعرف بقنطرة أم البنات، باب السلسلة، المشتمل على إيوان وبيتين وساحة ومرتفق خاص، وسفلى ذلك مخزن وقبو؛ ولذلك حدود أربعة معلومة، وقفا صحيحا شرعيا قاطعا ماضيا صريحا مرعيا وحبسا دائما سرمدا وصدقة جارية ومعروفا موكدا وسبيلا خالصا لأهله مؤبدا والمستحقين على الدوام وقفا عليهم ولهم مرصدا محرما بحرمات الله العظيم ابتغاء لوجه الكريم وطلبا لثوابه العميم يوم يجزي الله المتصدقين، لا يباع ذلك ولا شيء منه ولا من حقوقه ولا من حدوده ولا يملك ولا يناقد ولا يحل عقد من عقوده.

                          ولا يرجع هذا الوقف لغير أهله، ولا يعوض على غيرهم، ولا يتبدل، محفوظا على شروطه المبينة، لا يبطله تقادم دهر ولا يهونه اختلاف عصر. [ ص: 129 ] كلما مر عليه زمان أكده، وكلما أتى عليه أوان بينه وسدده أبد الآبدين ودهر الداهرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. إنشاء الواقف المذكور، أعظم الله له الأجور، وقفه هذا على السادات المغاربة المقيمين بالقدس الشريف والقادمين إليها من السادات المغاربة على اختلاف أوصافهم وتـبـاين حرفـهم، ذكـورهم وإنـاثـهـم كبـيرهم وصغـيرهم، فاضلهم ومفضولهم، لا ينازعهم فيه منازع، ولا يشاركهم فيه مشارك، ينتفعون بذلك السكن والإيجار وسائر الانتفاعات والمقاسمة والمزارعة على الضيع المذكورة. ويقدم في ذلك الواردين على المقيمين، والأحوج فالأحوج، والأدين فالادين. فإذا انقرضت المغاربة ولم يوجد منهم أحد مقيما بالقدس الشريف، سواء كان ذكرا أو أنثى، فيرجع وقفا على من يوجد من المغاربة في مكة المشرفة، زادها الله شرفا، وعلى من يوجد منهم بالمدينة المنورة. فإذا لم يوجد أحد بالحرمين الشريفين، فيرجع وقفا على الحرمين الشريفين وشرط الواقف النظر والتولية بالقدس الشريف، ويشهد له بالرشد والتقوى.

                          وقد أعد المكان الثاني المندرج في هذا الكتاب زاوية سكنا للواردين الذكور من المغاربة، وليس لإناث المغاربة الواردات ولا لذكور المغاربة المقيمين ولا لآبائهم السكن في المكان المذكور. وعلى كل من يتولى هذا الوقف أن يبدأ بعمارته وإصلاحه وترميمه وما فيه بقاء عينه ومزيد فعله وريعه وعلى ألا تؤاجر القرية مع أماكن استغلالها والمقاسمة عليها أكثر من سنتين ولا يستأنف عقد حتى ينقضي العقد الأول. [ ص: 130 ]

                          وقد شرط الواقف أن بعد الفايض من التعميرات أن يعمل المتولي في الثلاثة أشهر وهم رجب وشعبان ورمضان خبزا ويفرقه في الزاوية على المغاربة، لكل قادم من المغرب ومقيم من المغاربة بالقدس الشريف جوازي رغيفان، ذكورا وإناثا، عند تفريق الخبز بعد صلاة العصر يقرأ الحاضرون سبع فواتح والإخلاص والمعوذتين ثلاثا ويهدي ثواب ذلك إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه وأتباعه ولروح الواقف ولجميع من ينسب بالخير في هذا الوقف، وشرط الواقف إطعامه في عيد الفطر وفي عيد الأضحية وفي المولد الشريف لفقراء المغاربة، وشرط الواقف أن يتولى المتولي لكل قادم من الغرب، محتاجا ومقيما بالزاوية، ثمن الكسوة تقيه من البرد، وإذا مات مغربي ولم يكن عنده شيء فيصرف تجهيزه وتكفينه من غلة الوقف.

                          فقد تـم هـذا الوقف المبارك بتمـام شروطـه وأركانه وفق قواعـده وصحة بنيانه ونفذ حكمه وانبرام لوقوعه من أهله في محله، على الوجه المرضي لجوازه وحله وخلوه عما يؤدي إلى نقضه وحده لكونه صار وقفا مؤكدا وحبسا دائما محررا مسددا، لا يملك ولا يتصدق به ولا يوهب ولا يرهن ولا يناقد به ولا يتعوض عنه، ولا يسـلب ولا يحل لأحـد يؤمن بالله واليوم الآخر ويعلم أنه إلى ربه العظيـم صـاير: من أمـير أو مأمور ذي سلطان جاير أن يبطل هذا الوقف، لا شيء منه ولا بغيره، ولا ينسى منه، ولا يقدح فيه، ولا في شيء منـه، ولا يسـعى في إبطـالـه، ولا في إبطـال شـيء منه، جاهرا ولا بإيماء ولا بفتـوى، ولا بمشـورة ولا بتدقيـق حيلة يعلمه بها، الذي يعلم خائنة [ ص: 131 ] الأعـين وما تخـفي الصـدور. فمـن فعـل ذلك وأعـان عليه فالله تعالى طليبـه وحسيـبـه، ومؤاخـذه بعمله، ومجازيه بفعله، ويلق الله وهو غضبان عليـه غير راض عنه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سـوء تود لو أن بـيـنـها وبينـه أمـدا بعيـدا، ويحـذركم الله نفسـه، والله رؤوف بالعباد.

                          ومن خالف ذلك فقد عدل عن أمر ربه وتمرد عليه واستبان وعيده واستحق لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، فالويل ثم الويل لمن خالفه وتعداه لقوله تعالى: ( فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم ) (البقرة:181).

                          وقد وقع أجر هذا الوقف على الله رب العالمين، الذي لا يضيع أجر المحسنـين، وأشهـد عليه، أحسـن الله إليه وأجـرى الخـيرات على يده بجـميـع ما نسب إليه في هذا الكتاب، بعد أن قرئ عليه من أوله إلى آخره وتلفظ بوقف ما عين وقفه فيه على الحكم المشروح فيه في الحال والحال، ولشرط الشروط والنظر كما عاينه وبين بأعاليه وذلك في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان المعظم، سنة عشرين وسبعمائة، أحسن الله تنظيمها في خير وعافية، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وعترته الطيبين الطاهرين.

                          قاضي القدس الشرعي. [ ص: 132 ]

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية