المبحث الثالث: حارة المغاربة:
موقع الحارة:
يقع المكان، الذي كانت تقع عليه حارة المغاربة في الجانب الجنوبي الغربي لمدينة القدس، إلى الغرب من المسجد الأقصى المبارك، بالقرب من حارة الشرف وحارة اليهود وحارة باب السلسلة .
مساحة حارة المغاربة:
شغلت حارة المغاربة مساحة تقدر بخمسة وأربعين ألف متر مربع، وهي بذلك تشكل ما نسبته (5%) من مساحة القدس القديمة.
حدود الحارة:
يحد حارة المغاربة من جهة الجنوب سور القدس وباب حارة المغاربة، ومن الشرق الزاوية الفخرية ويليها المسجد الأقصى، ومن جهة الشمال المدرسة التنكزية وقوس ولسون المعروف بأقواس تنكز الحاملة للمدرسة التنكزية وعلى صفها تربة الأمير حسام الدين بركة خان والمكتبة الخالدية، ومن جهة الغرب [ ص: 95 ] حـارة الشـرف (تحولت اليوم إلى حـارة لليهود)، وكان يمـكن الوصول إليها عبر زقـاق يفصل بين زاوية المغـاربة وتربة الأمير بركة خان المعروفة كذلك بالمكتبة الخالدية.
الشكل العام للحارة:
تأخذ حارة المغاربة شكلا مربعا يتخلله منشآت أثرية وتاريخية قديمة يعود بعضها إلى العصر الأيوبي، ويتخلل هذه المنشآت عقبات وأزقة معوجة وضيقة تصـل أرجـاء الحـارة بعـضـها ببعض، ويتوزع على جـانبي كل عقبة أو طريق أو زقاق في هذه الحارة عدد من المباني المتلاصقة، التي يعلوها في بعض الأحيان قناطر وبوائك مع ظهور قليل للقباب مما ميز المدرسة الأفضلية، التي كانت تعلوها قبة مرتفعة عن غيرها من المباني فعرفت بمدرسة القبة؛ وصفها كامل العسل قائلا: "وتتخذ الحارة شكلا مستطيلا تتخلله طرق مبلطة ضيقة، وجميع منازل الحي ملاصقة بعضها لبعض.. وهي أبنية قديمة تشتهر بآبارها وغرفها الصغيرة وجدرانها السميكة، كما تشتهر بصغر مداخلها.. ومن ضمن أبنيتها مبان تاريخية إسلامية يرجع بعضها إلى زمن المماليك".
توصيف حارة المغاربة:
تقع حارة المغاربة في الجزء الجنوبي الشرقي من مدينة القدس القديمة ملاصقة لحائط البراق، الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من الحرم القدسي الشريف. وتعـتـبر البقـعة، الـتي تـقوم عـليـها حـارة المغـاربة ذات أهمية دينية خـاصة؛ لأنها المكان، الذي حط فيه البراق، الذي حمل النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء [ ص: 96 ] والمعراج. وترجع تسمية حارة المغاربة بهذا الاسم إلى أواخر القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي. فقد وفد إلى بلاد الشام في هذه الفترة جنود من المغاربة من بحارة الأسطول، الذي بعث به السلطان يعقوب المنصور، سلطان المغرب، لنصرة صلاح الدين، وكذلك جنود من المغاربة كانوا يعملون في الجيش المصري منذ زمن الفاطميين وتوجه بعض هؤلاء إلى القدس. وقد وقف الملك الأفضل نور الدين علي ابن صلاح الدين الأيوبي الأراضي والمساكن المحيطة بموضع البراق على طائفة من المغاربة. وكان ما بين سنتي 589هـ و592هـ. وقد وقف أعيان المغرب بعد ذلك وقوفا ثلاثة مهمة على المغاربة، الذين يقطنون القدس هي: وقف شعيب بن محمد المعروف بأبي مدين؛ وهو يشمل زاوية أبي مدين بالقدس وقرية عين كارم؛ ووقف الشيخ عمر المصمودي، الذي يشمل زاوية المغاربة وعددا من الدور في حارة المغاربة؛ ووقف السلطان علي بن عثمان المديني، الذي كان يشتمل على عقارات وأراض في القدس وعلى مصحف كتبه السلطان بخط يده ووقفه على الحرم القدسي. وهذه الأوقاف الثلاثة تمت في القرن الثامن الهجري [1] .
لماذا تأسيس حارة المغاربة؟
كان من جملة الأمثلة على ما ذكرناه آنفا هذه الحارة، التي تنسب للمغاربة، الذين وصلوا من الأندلس وشمال إفريقيا في زمن صلاح الدين الأيوبي، وكانت من أشهر الحارات الموجودة في البلدة القديمة بالقدس الشريف، [ ص: 97 ] وكانت هذه الحارة بالكامل وقفا من الملك "الأفضل علي" بن السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بعد تحرير المدينة من الصليبيين، حيث أوقفها بأكمـلـهـا على المجـاهـدين المغاربة، الذين شاركوا في الفتح وبقيت باسمهم، وقرر أن مدخـول جمـيـع هذا الوقف يوزع على عامة المغاربة؛ وباتت تعرف بحارة المغاربة.
وقد أوقف الملك الأفضل حارة المغاربة على مصالح طائفة المغاربة المقيمين في القدس إبان سلطنته على دمشق (589هـ/1193م-592هـ/1195م) حين كانت القدس تابعة له بغية تشجيع أهل المغرب العربي على القدوم إلى القدس والإقامة فيها ومساعدة سكانها المغاربة، الذين فضلوا الاستقرار والمجاورة بالقرب من مسجدها المبارك؛ ولذلك كتب مجير الدين: "ووقف أيضا حارة المغاربة على طائفة المغاربة، على اختلاف أجناسهم، ذكورهم وإناثهم، وكان الوقف حين سلطنته على دمشق، وكان القدس من مضافاته".
لمحة تاريخية:
ترجع الأهمية التاريخية للموضع، الذي أقيمت عليه حارة المغاربة إلى العصر الأموي حين أنشأ الأمويون عددا من القصور الملاصقة لسور المسجد الأقصى المبارك من الناحيتين الجنوبية والجنوبية الغربية، ويرجع تاريخ تأسيس حارة المغاربة إلى العصر الأيوبي، وقد عرفت حارة المغاربة باسمها بعد أن أوقفها الملك الأفضل، وحافظت على عروبتها وإسلامها منذ أن تأسست بعيد الفتح الصلاحي لمدينة القدس، وسكن المغاربة في حارتهم ولم يغادروها حتى داهمت [ ص: 98 ] جرافات الاحتلال الإسرائيلي بيوتهم لتدمرها بتاريخ 11-12-13، حزيران، سنـة 1967م، وكان مما ميز موقـع الحارة وجود الزاوية الختنية القريبة منها، تلك الزاوية، التي أوقفها صلاح الدين الأيوبي على الشيخ جلال الدين محمد ابن أحمد ابن محمد الشاشي [2] في 18 ربيع الأول سنة: 587هـ/1191م.
الأهمية الدينية:
كان دخـول نـبـيـنـا محمد صلى الله عليه وسلم مدينـة القـدس من بابـها اليمـاني كما ورد في روايات تاريخية حيث أصبح موضعه من ذلك اليوم يعرف بباب المغاربة؛ وذلك تأكيدا على المكانة، التي تميز بها هذا المكان القريب جدا من الحائط، الذي ربط الحبيب صلى الله عليه وسلم فيه البراق الشريف، وينقل مجير الدين رواية الإسـراء بقوله: "ثم انطلق بي جبريل عليه السلام حتى دخلت المدينة من بابها اليماني الجنوبي، فأتى قبلة المسجد، فربط بها البراق ودخلت المسجد من باب تميل فيه الشمس والقمر"، ويضيـف قائلا: "قال مؤقتو بيت المقدس لا نعلم بابا بهذه الصفة إلا باب المغاربة".
وقد ارتبط تاريخ الحارة بوجود حائط البراق الشريف، الذي كان هو أيضا من جملة الأوقاف، التي شملها وقف الملك الأفضل نور الدين علي بن الناصر صلاح الدين الأيوبي، كما أنها كانت قبلة لأهل المغرب العربي ممن رأى منهم أن يجاور في المسجد الأقصى ويرابط في القدس ليختم حياته هناك، ومقصدا للصوفية من أتباع كل من أبي مدين الغوث الحفيد والشيخ الزاهد عمر [ ص: 99 ] المصمودي وغيرهما، كما شهدت الحارة ملتقى لأتباع المذهب المالكي بسبب تمركزهم فيها ووجود المدرسة الأفضلية، التي أوقفها الملك الأفضل.
وقد احتضنت الحارة عددا من المؤسسات الدينية والوقفية، التي لعبت دورا بارزا في الحـركة العـلمية والفكرية والدينية في القدس إبان العصر الأيوبي ثم العصـرين المملـوكي والعثـماني؛ ذكرها مجـير الدين: "حارة المغاربة وهي بجوار المسجد من جهة الغرب ونسبتها إلى المغاربة؛ لكونها موقوفة عليهم وسكنهم بها".
وتميزت حارة المغاربة بجملة من الأوقاف الكبيرة، التي ضمنت استمرار وتدفق المعونات والأموال والصدقات على مستحقيها من الأصول المغربية، المقيمـين فيـها والـواردين إلى القـدس، المقيمـين في زوايا الصـوفية فيها، كزاوية أبي مدين الغوث الحفيد، مؤرخ وقفها في 28 شهر رمضان سنة 720هـ- 1320م، وزاوية الشيخ الناسك عمر بن عبد الله المصمـودي المـؤرخ وقفها في ثالث شهر ربيع الثاني سنة 703هـ- 1303م، وقد ازدهرت أوقافها في العصر المملوكي حين ظهرت أوقاف أبي مدين والمصمودي، وراح سكانها ينخرطون في الحياة الدينية في القدس لا سيما إمامة السادة المالكية في القدس، وقد ظهر منهم علماء وفقهاء وشيوخ دين كان لهم دور بارز في تاريخ القدس، الذي أخذت ملامحه تتكشف على نحو تفصيلي بعد ازدياد الاهتمام بالكشف عن وثائق سجـلات المحـكمة الشـرعية في القـدس ووثائق الأرشيف العثماني في استنبول. [ ص: 100 ]
مباني حارة المغاربة العريقة:
ضمت الحارة عشرات المباني، التي يعود تاريخ بعضها إلى العصر الأيوبي، كان أشهرها المدرسة الأفضلية، وقد بلغ عدد المباني الأثرية، التي هدمتها جرافات الاحتلال الإسرائيلي (135) بناء أثريا امتدت فوق الساحة، التي أخذ يطلق عليها اليهود فيما بعد ساحة المبكى، وتكشف خارطة أفقية للقدس قبل تدمير الحارة المباني الأثرية، التي كانت قائمة فيها وطرق حارة المغاربة.
انتشار أوقاف أخرى بالحارة:
- وعلى مر الزمان انتشرت في الحارة الأوقاف المتعددة من مدارس وأبنية ومصليات وزوايا وغيرها.. إلخ.
- هذا، وقد أسس المغاربة مسجدا وسموه ""جامع المغاربة"".
- وكانت لهم زاوية تعرف بزاوية المغاربة جنوب غرب الحرم.
- وكذلك الزاوية الأفضلية، التي كانت ضمن حدود حارتهم.
- وكانت حارة المغاربة تضم، علاوة على المنازل، عديدا من المرافق، أهمها المدرسة الأفضلية، التي بناها الملك الأفضل وسميت باسمه "المدرسة الأفضلية" [3] . [ ص: 101 ]
عمل الكثير من المغاربة بعد ذلك على صيانة هذا الوقف وتنميته؛ وذلك بمجموعة من الإجراءات العملية؛ والمقصد منها هو رعاية الأوقاف المغربية واستدامتها، وبقاء التعلق المغاربي بهذه الأرض المقدسة؛ وكان منها على سبيل المثال لا الحصر اقتناء العقارات المجاورة للحي وحبسها صدقات جارية، ولعل من أشهر هؤلاء، الذين يذكرهم التاريخ ولا يمكن أن تقبر أسماؤهم أو يتعرضوا لطي النسيان؛ إنه العالم أبو مدين شعيب تلميذ الشيخ سيدي صالح حرازم ودفين تلمسان (594هـ) الذي حبس مكانين كانا تحت تصرفه، أحدهما قرية تسمى عين كارم بضواحي القدس، والآخر إيوان يقع داخل المدينة العتيقة ويحده شرقا حائط البراق. ظلت جميع تلك الأوقاف محفوظة عبر السنين، وظلت الدول المتعاقبة على الحكم تحترمها خاصة أيام الفتح العثماني وحتى بعد الاحـتـلال البـريـطـانـي إلى أن كان الـعـدوان الصـهـيـونـي الغاشم والمتوحش فنشب أظـفاره الخبيثـة في أوقـافنا المغربية الطـاهرة، ولم يرع فيها إلا ولا ذمة، والله المستعان! [ ص: 102 ]
لماذا عناية اليهود تركزت على حارة المغاربة؟ مع تصحيح مفهوم حائط المبكى!
لقد كانت حارة المغاربة في القرون الأخيرة محط أطماع اليهود؛ لأنها تقع عند حد حائط البراق، الذي يعرف عندهم بالحائط الغربي. ومن المهم أن نؤكد أن الحائط الغربي ليس هو الحائط الغربي للهيكل، أو قدس الأقداس عند اليهود، وإنما هو الحائط الاستنادي الخارجي لما يسمونه جبل البيت؛ لأن الحائط الغربي للهيكل، الذي بناه هيرودس دمر تدميرا تاما في القرن الثاني بعد الميلاد، وإذا كانت التوراة تتحدث عن الحائط الغربي للهيكل فإنها لم تشر بكلمة إلى الحائط الغربي لجبل البيت. ومن المهم أن نؤكد أن هذا الحائط الأخير لم يكن مكان صلاة عند اليهود حتى القرن السادس عشر الميلادي.
وتقول الموسوعة اليهودية: "إن الحائط الغربي أصبح جزءا من التقاليد الدينية اليهودية حوالي سنة 1520م".
إن اتخاذ حائط المبكى مكانا للصلاة والعبادة ارتبط منذ ذلك الوقت بالأطماع السياسية لليهود والدول الغربية. وقد بلغت هذه الأطماع ذروتها في القرن التاسع عشر، واتخذت أشكالا مختلفة منها محاولة رصف الرصيف المجاور للحائط وشراء حارة المغاربة والحائط والرصيف والقيام بأعمال استفزازية مختلفة عند الحائط.
وقد أدت محاولات اليهود الاستيلاء على الحائط ومنطقة البراق إلى اصطدامات مسلحة بعد بداية الانتداب البريطاني، كان آخرها ثورة البراق، التي نشبت في القـدس وسائر أنحاء فلسطين سنة 1929م دفاعا عن المسجد [ ص: 103 ] الأقـصى وعن البـراق. وقـد تمخـضت هذه الثورة عن إحالة قضية البراق إلى لجنـة دوليـة وضـعـت سنـة 1930م تقـريرا أيدت فيـه حـق المسلـمين، الذي لا شبهة فيه بملكية حائط البراق والرصيف، الذي يحاذيه بوصفهما من أملاك الوقف الإسلامي.
وعندما احتل الإسرائيليون القدس سنة 1976م كان أول ما فعلوه الاستيلاء على رصيف البراق وتسوية حارة المغاربة بالأرض [4] .
رواية من مصادر إسرائيلية جديرة بالانتباه:
ويروي الصحفي الإسرائيلي "عوزي بنزيمان" في كتابه "القدس: مدينة دون سور" أنه في: 8- 6- 1967م، توجه إلى ساحة "الحائط الغربي ديفيد بن غوريون وتيدي كوليك رئيس بلدية القدس الغربية، برفقة يعقوب يناي مدير سلطة الحدائق الوطنية، ووقف الزعيم المسن ابن غوريون أمام الحائط المقدس وبكى بمرارة، وبعدها أمر أحد الجنود المكلفين بالحراسة لكي يزيل من على الحائط لوحة "البراق" التي وضعت عليه في فترة الحكم الأردني. وقال يناي لرئيس البلدية: "يجب العمل على تنظيف المنطقة، ويجب أن نمنح الحائط رونقه". واستجاب كوليك، وتوجه إلى الجيش الإسرائيلي وإلى جهات أخرى، وبعد أيام تم إخلاء الحي السكني وهدمه (حي المغاربة) المجاور للحائط الغربي، وأقيمت في أسفل الحائط ساحة كبيرة مساحتها 20 ألف متر مربع، وكانت من أكثر الأعمال، التي رمزت لتبدل السلطة على الحائط. [ ص: 104 ]
ما هو رصيف البراق؟
إن ذاك الرصيف هو عبارة عن زقاق ضيق عرضه أربعة أمتار وطوله ثلاثون مترا، كان يسلكه المغاربة إلى بيوتهم في حارتهم على أرض الوقف، وبعد احتلال القوات البريطانية مدينة القدس أواخر عام 1917م، جدد اليهود محاولاتهم بوضع اليد وتملك جميع ما في ذلك الموقع من ممتلكات وأوقاف إسلامية. ويلاحظ أن الاعتداءات اليهودية استمرت على الحائط طوال فترة العشرينيات لمحاولة تغيير الوضع السائد، وتمثل ذلك بجلب الكراسي والمصابيح والحصر وتابوت العهد وكتب التوراة ووضع الستار الفاصل بين الرجال والنساء، ما أدى إلى قيام ثورة البراق عام 1929م، والتي أودت بحياة العديد من العرب المسلمين وكذا من اليهود.
ولأهمية الحارة ضمن أوقاف المغاربة نسوق حجة وقف الملك الأفضل نور الدين علي، رحمة الله عليه.
حجة وقف الملك الأفضل نور الدين علي (حارة المغاربة):
الرقم: 8.
التاريخ: 589هـ/1193م - 592هـ/1195م، وقد أعيد تسجيل حجة الوقف في 15 شوال، سنة 973هـ/1565م، ثم في 26، شعبان، سنة 1004هـ/1595م.
الواقف: الملك الأفضل نور الدين علي بن السلطان صلاح الدين الأيوبي.
الموقوف: حارة المغاربة في القدس. [ ص: 105 ]
جهات الوقف: فقراء المغاربة في القدس.
المصدر: س. ش 77 ص: 588.
نوع الوقف: خيري.
حجة الوقف: شرط واقف محلة المغاربة قيد بإذن مولانا .. شجاع الدين أفندي قاضي القدس الشريف .. وهذا الكتاب متصل الثبوت والتنفيذ بحكم الشريعة إلى يومنا هذا. وقيد في اليوم السادس والعشرين من شهر شعبان سنة ألف وأربع.
بسم الله الرحمن الرحيم، يشهد من أثبت اسمه وشهادته آخر هذا المحضر؛ وهم يومئذ من الشهـود الأمنـاء الأحرار العقـلاء المسـلـمـين الذكور الأخـيار من أهل علم وخبرة بـما يشهـدون به شهادة عرفوا صحتها وتحققوا معرفتها.. لا يشكون فيها ولا يرتابون .. ويلقون الله بأدائها أنهم يعرفون جميع الحارة المعروفة بحارة المغاربة الكائنة بمدينة القدس الشريف. ويحدها وتشمل بالحدود الحد الأول وهو القبلي ينتهي إلى سور مدينة القدس الشريف وإلى الطريق المسلوك إلى عين سلوان، وغيرها، والحد الثاني وهو الشرقي ينتهي إلى حائط الحـرم الشـريف، والحد الثالث وهو الشمالي ينتهي إلى القنطرة المعروفة بقنطرة أم البنات، والحد الرابع وهو الغربي ينتهي إلى دار الفاضل، وإلى سفل الدار المعروفة بالمولى القاضي الإمام العالم شمس الدين قاضي القدس الشريف، ثم إلى دار الأمير عز الدين موسكي، ثم إلى دار الأمير حسام الدين قايماز، ويشهد شهوده أن هذه الحارة المعينة المحدودة أوقفها السلطان الملك الأفضل نور الدين [ ص: 106 ] علي بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي، رحمهما الله تعالى، على جميع طائفة المغاربة على اختلاف أوصافهم وتباين حرفهم، ذكورهم وإناثهم، كبيرهم وصغيرهم، فاضلهم ومفضولهم، وأصولهم وفصـولهم؛ ليسكنوا فيها وفي مسـاكنها وينتفعوا بـمرافقها على قدر طبقاتـهم وما يراه الناظر عليهم وعلى وقفهم من ترتيب ذلك، وتفضيل من فضله، وتقديم من يقدمه، بحيث لا يتخذ شيء من المساكن، التي ملكها ولا احتجازا ولا بيعا وقفا مؤبدا شرعيا ماضيا جاريا على هذه الطائفة المغاربة، كان من كان، ويشهد شهوده أن النظر في ذلك وفي كل جزء منه وفي ترتيب أحواله ووظائفه وأموره راجع إلى من يكون شيخا قدوة من المغاربة المقيمين في كل عصر وأوان بالقدس الشريف يتولى ذلك بنفسه وله أن يولي من اختار وآثر وأن يستنيب عنه من يقوم مقامه، وله عزله إذا أراد وإذا رأى وقف وحبس.. ويشهدون به، وبذلك كتبوا شهاداتهم في اليوم الرابع والعشرين من شهر رجب الفرد سنة ست وستين وستمـائة وبالأصـل إلى .. المسـطـرة صـورتـه ثـم إلى دار الأمـير عمـاد الدين ابن موسكي إلى دار الأمير حسام الدين قايماز وكذلك إصلاح دار الفاضل وهذا الملحق المذكور .. بذمتها هذه السنة وبناء على ذلك يعلم.
ذاكرة اقتلاع المغاربة من حارتهم والحنين إلى الديار:
وقد أتت معاول العدوان الغاشم في ظرف بضعة أيام على طرد سكان الحارة المغربية البالغ عددهم آنذاك 635 نسمة. وعلى هدم 138 بناية من ضمنها جامع البراق الشريف وزاويته، و"جامع الأفضلية"، ومكتب إدارة [ ص: 107 ] الأوقاف ومخازنها، ويقدر مجموع ثمنها بـ 2071000 دينار أردني. ولم تمض سنة على هذه الكارثة المهولة حتى أقدم الكيان الصهيوني إلى إصدار قرار جائر يقضي بامتلاك عدد من الأراضي والعقارات كان فيها ما ترجع ملكيته لوقف الشيخ أبي مدين وأوقاف المحسنين المغاربة [5] .
ثم استهدفت السياسة الصهيونية الأوقاف المغربية مرة أخرى بالهدم والنسف سنة 1971م بدعوى القيام بحفريات واستكشاف الآثار اليهودية بين أوقاف المغاربة حسبما أعلنته الصحف الصهيونية "دفارا" بتاريخ: 14 / 7 /1971م، و2/ 8 / 1971 م، وها آريتس بتاريخ: 19 / 07 /1971م، و 5 / 3 /1971م.
وعلى الرغم من اندثار الحارة وشطبها عن بكرة أبيها من خارطة القدس، إلا أنـها بقيت بـكل تفاصيـلها، بأزقتـها وشرفاتـها عالقة في ذاكرة سكانها، الذين هجروا منها قسرا، ولدينا شاهدة عيان هي أم داود الدجاني مصرحة:
"دائما أحلم بالعودة إلى حارتي، التي شهدت زهوة طفولتي ومرحي، أحن إلى أزقتها، التي باتت محرمة إلا على الصهاينة، الذين حولوا تفاصيل الحارة إلى [ ص: 108 ] حائط المبكى، الرمز الأساسي لديانتهم وصلواتهم"، تصمت المرأة قليلا ويأخذها الحنين إلى تفاصيل بيتها وأيام عمرها الوردية، ثم تبتسم قليلا وكأن مشهدا جميلا مر في شريط ذكرياتها، فتشير أنها رأت طفولتها وتنقلها كفراشة بين أزقة الحارة، بينما الآن لا تجرؤ على اختلاس النظر إليها،
وتابعت: "أحلم أن أعود مجددا للحارة؛ لأقضي فيها يوما واحدا من عمري، وبعدها لينقض الأجل".
فتؤكد مستطردة أن قوات الاحتلال عمدت إلى إخراجهم بالقوة وتحت التهديد بهدم البيوت على رؤوسهم، الكثيرون انصاعوا وخضعوا للأوامر العليا، وخرجوا مشتتين إلى الأحياء والمناطق المجاورة، حاملين بقلوبهم آلام الفقد، ومرارة الافتقاد لتفاصيل الحارة، التي سويت بالأرض بفعل الجرافات الصهيونية غير أنها تتجه بالحديث لحقيقة أخطر وأكبر تزيد من آلامها، وتلهب مشاعر الحزن بقلبها، قالت:
"أثنـاء هـدم قـوات الاحتلال للحارة تم اكتشاف العديد من الآثار، التي تؤصـل تاريخيا للحـارة، إلا أنـهم كالعادة استولوا عليها وهودوها تماما، كما الأرض، ادعوا أنها يهـودية الأصـل، غير أن تفاصيل الجـدران وما كتب عليها من ألفاظ، ونقش عليها من رسومات، كلفظ الجلالة، ونجمة المغاربة الخماسية، التي ترمز للصلوات الخمس، التي استبدلت بنجمة داود، تدحض كل الادعاءات الواهية، وتؤكد على أن الحارة عربية أصيلة".
وأشارت أم داود إلى بعض المناطق، التي تفرق إليها سكان حارة المغاربة، وهناك استطاعوا الاندماج بالفلسطينيين، فأقاموا معهم علاقات نسب [ ص: 109 ] ومصـاهرة، وكونوا أسرا، وبات الـكثيرون منهم يتحـدث اللهجة الفلسطينية مع المحافظة على أصولهم المغربية، وأوراقهم الرسمية القديمة، التي تحفظ لهم حقوقهم، آملين في استعادتها يوما من الأيام،
وأضافت: "أتمنى أن أعود لحارتي فما زالت تفاصيلها منقوشة في ذاكرتي، وأستطيع أن أرسمها شارعا شارعا، وبيتا بيتا، ودكانا دكانا، لن تغـادرني تفـاصيلـها إلا عنـد توقف قلبي عن النبض بالحياة".
حارة المغاربة في وقتنا الحاضر:
اليوم، عندما يطل المرء من الجهة الغربية من المسجد الأقصى وينظر صوب الغرب فلا يرى أثرا لذلك الحي الإسلامي المسمى بحارة المغاربة بعد أن كان أحد أحياء القدس العربية المزدحمة بالسكان المسلمين الفلسطينيين، أصبح هذا الحي بمنازله ومساجده وأزقته أثرا بعد عين! وقد سويت الحارة مع الأرض فأصبحت قاعا صفصفا، والآن هي ساحة واسعة مبلطة تستعمل أرجاؤها!
ولم تقتصر الاعتداءات على هدم حي المغاربة وإزالته من الوجود وإنما تعدته الاعتداءات على الأماكن المجاورة للحي والملاصقة للسور الغربي للحرم القدسي الشريف، وكان أهمها في 16- 06- 1969م، ودون سابق إنذار خـرجت وزارة الأديان الإسـرائيلية ببيان تعلـن فيـه أن أعمـال هـدم زاوية أبي السعـود المحـاذيـة للحـرم القـدسـي الشـريف والمـلاصـقـة لحـارة المغاربة قـد بدأت بالفعل وادعت سلطات الاحتلال بأن هذا الهـدم لأغراض "السلامة العامة"؛ وهي تسـمى بالزاوية أو الخانقاه الفخرية، وهي مجاورة [ ص: 110 ] لجامع المغاربة على بعد مائتي متر من المسجد عند الباب، الذي يخرج منه إلى حارة المغاربة.
وقد وقفها القاضي فخر الدين أبو عبد الله ناظر الجيوش الإسلامية، توفي سنة 732 هـ/1331م، وكانت في القرن العاشر الهجري مدرسة وكان ناظرها وشيخها في سنة 937هـ/1530م بهاء الدين بن حامد، وكان تعيينه بأمر من السلطان مادام على قيد الحياة، وكان لصلف وعنجهية الناطق بلسان وزارة الأديان الإسرائيلية أن صرح أن وزارته بدأت بهدم المباني، المجاورة للجهة الجنوبية من حائط المبكى وأن جميع المباني، التي ستهدم مهجورة ولا يسكنها أحد، وهذا ادعاء زائف ومغالط للحقائق.
وأخـيرا، فـإن محـو حـارة المغـاربة والاعتداءات المتكررة على القدس عامة والمسجد الأقصى المبارك، بشكل خاص، هي أعمال يراد بـها تهويد مدينة القدس والعمل على تقليص الوجود الإسلامي العربي فيها، ولكنهم يمكرون والله سبحانه وتعالى يصد مكرهم، وهو كفيل بحماية بيته من دنس الكافرين والحاقدين [6] .
باب حارة المغاربة القديم:
والظاهر أن اسم باب حارة المغاربة قد اكتسبه بعد وقف الحارة على جمهور المغاربة في القدس؛ للأسباب التي أسلفنا ذكرها، ولا يعرف إذا ما كان [ ص: 111 ] قد أعيد بناؤه في زمن السلطان الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبي في سنة 587هـ/1191م، حين هم ببناء سور القدس. وقد استعمل باب المغاربة منذ ذلك التاريخ؛ ليكون مدخل ومخرج المغاربة المجاورين في القدس والمقيمين في حارة المغاربة، وكان هذا الباب يقع إلى الغرب من موضع الباب الحالي، وقد كشف قبل بضع سنوات عن موضعه وفتح مكانه في السور [7] .
باب حارة المغاربة الجديد:
وهو المدخل الجنوبي لمدينة القدس؛ إذ يقع على امتداد الجدار الواصل إلى قبة المسجد الأقصى المبارك؛ أمر بفتحه السلطان سليمان خان القانوني في سنة 947هـ/1540م، في مكان غير بعيد عن باب حارة المغاربة القديم، وقد أدخل في محيط باب حارة المغاربة الجديد عدد من المنشآت بنيت خارج سور [ ص: 112 ] القدس عرفت مجتمعة بحارة المغاربة البرانية، ويوجد نقش تأسيسي يؤرخ لفتح الباب في سنة: 947هـ/1540م، وقد عرف الباب بأسماء عدة كان أبرزها باب المغاربة، وباب المغارة، وباب الدباغة، وباب الدمن.
أوقاف بجوار باب المغاربة:
وثمة وثائق تؤكد هذا الكم الضخم من الوقفيات، ومنها وقفية تعود إلى القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي والتي تشمل تعمير بعض المرافق القريبة من باب المغاربة المعروف بباب البراق، وهي من وقف الحاكم العثماني في القدس آنذاك مصطفى باشا المعروف ببكت آخي.
واشتمل الوقف على حجرة صغيرة تقع قرب جامع المغاربة وهي معدة لقراءة القرآن والذكر والتسبيح، كما عمر بمحاذاتها سبيل ماء يعرف حاليا بسبيل باب جامع المغاربة أو سبيل البديري، كما أوقف خمسة قناديل، ثلاثة منها في قبة الصخرة، وواحد في باب البراق "المغاربة" والأخير في سبيل الماء للتيسير على من يرد إليه في الليل والنهار.
حـتى تبقى هذه المنشآت عامرة، أوقف عليها عقارات، ومنها: دكاكين في سوق باب القطانين، وحواكير في حارة المغاربة، وقد جاء في نص الوقفية المـؤرخـة في غرة رمضـان: 1043هـ/1633م، أن المتولي على وقف السبيل هو الشيـخ أحمد الحامدي المفتي المالكي في بيت المقدس، وإمام جامع المغاربة، أما الخدمة على السبيل والسقاية فيه، فقد تولاها الشيخ يحيى، وسليمان بن شعلان. [ ص: 113 ]
معاناة باب المغاربة وما جاورها:
وقد شهدت السنوات الماضية أعمال تجريف إسرائيلية لهدم الممر والجسر الموصل لباب المغاربة، وإزالة التـلة الترابية، وهدم غرفتين مضت قرون طويلة على إنشائهما، إنها تتحدث عن التاريخ والحضارة والأصالة، وهذا العمل يمس بجزء أصيل من المسجد الأقصى المبارك؛ لأن حائط البراق جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك والذي تبلغ مساحته مائة وأربعة وأربعين دونما، وقد تم إماطة النقاب عن اكتشاف بقايا غرفة صلاة إسلامية قديمة في التلة الترابية في باب المغاربة اكتشفت في 2004م، عندما انهار جزء من التلة في ساحة حائط البراق، وبقي الموضوع سريا حتى الآن لدى المسؤولين الإسرائيليين، والحديث يجري عن مصلى هو جزء من مدرسة لتعليم الدين الإسلامي عملت من فترة صلاح الدين الأيوبي- الفترة الأيوبية- في القرن الحادي عشر قرب باب المغاربة.
إن كل الدراسات تشير إلى أن الغرفة، التي كان فيها محراب تعلوها قبة هي من المدرسة الأفضلية، التي بناها الأفضل علي بن صلاح الدين الأيوبي، الذي كان يشغل منصب حاكم القدس وتولى الحكم بعد أبيه عن ولاية الشام.
إن وقف الأراضي والمساكن المحيطة بموضع البراق الشريف على طائفة المغاربة، كان يهدف إلى مساعدة المغاربة من جهة وإلى المحافظة على منطقة البراق الشريف، لأهميتها الدينية وارتباطها بإسراء النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى [8] . [ ص: 114 ]