الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3725 ص: فقد اختلفوا عن النبي - عليه السلام - في إحرامه في حجة الوداع ما كان ؟ فقالوا : ما روينا وتنازعوا في ذلك على ما قد ذكرنا وقد أحاط علمنا أنه لم يكن إلا على أحد [ ص: 240 ] تلك المنازل الثلاثة إما متمتع وإما مفرد وإما قارن ، فأولى بنا أن ننظر إلى معاني هذه الآثار ونكشفها لنعلم من أين جاء اختلافهم فيها ونقف من ذلك على إحرامه - صلى الله عليه وسلم - ما كان ؟ فاعتبرنا ذلك فوجدنا الذين يقولون : إنه أفرد يقولون : كان إحرامه بالحج مفردا لم يكن من قبل ذلك إحرام بغيره ، وقال آخرون : بل قد كان قبل إحرامه بتلك الحجة أحرم بعمرة ثم أضاف إليها هذه الحجة ، هكذا يقول الذين قالوا : قرن ، . وقد أخبر جابر - رضي الله عنه - في حديثه وهو أحد الذين قالوا : إن النبي - عليه السلام - أن رسول الله - عليه السلام - أحرم بالحجة حين استوت به ناقته على البيداء . وقال ابن عمر : - رضي الله عنهما - : من عند المسجد وهو أيضا ممن قال : إن رسول الله - عليه السلام - أفرد الحج في أول إحرامه ، وكان بدء إحرامه - عليه السلام - عند ابن عمر ، وجابر بعد خروجه من المسجد ، وقد ثبتنا عنه فيما تقدم من كتابنا هذا أنه قد كان أحرم في دبر الصلاة في المسجد فيحتمل أن يكون الذين قالوا : قرن سمعوا تلبيته في المسجد بالعمرة ثم سمعوا بعد ذلك تلبيته الأخرى خارجا من المسجد بالحج خاصة فعلموا أنه قرن وسمعه الذين قالوا : إنه أفرد وقد لبى بالحج خاصة ولم يكونوا سمعوا تلبيته قبل ذلك بالعمرة فقالوا : أفرد وسمعه قوم أيضا ، وقد لبى في المسجد بالعمرة ولم يسمعوا تلبيته بعد خروجه منه بالحج ، ثم رأوه بعد ذلك يفعل ما يفعل الحاج في الوقوف بعرفة وما أشبه ذلك وكان ذلك عندهم بعد خروجه من العمرة فقالوا : تمتع ، فروى كل قوم ما علموا وقد دخل جميع ما علمه الذين قالوا أفرد وما علمه الذين قالوا : إنه تمتع فيما علم الذين قالوا : إنه قرن ؛ لأنهم أخبروا عن تلبيته بالعمرة ثم بالحجة بعقب ذلك وصار ما ذهبوا إليه من ذلك وما رووا أولى مما ذهب إليه من خالفهم وما رووا ثم قد وجدنا بعد ذلك أفعال رسول الله - عليه السلام - تدل على أنه قد كان قارنا وذلك أنه - عليه السلام - لا يختلف عنه أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلا من كان ساق منهم هديا ، وثبت هو على إحرامه فلم يحل منه إلا في وقت ما يحل الحاج من حجه وقال : "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ، فمن كان ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة" هكذا حكاه عنه جابر بن عبد الله - رضي الله ، عنه - وهو ممن يقول : [ ص: 241 ] إنه أفرد ، وسنذكر ذلك وما روي فيه في باب فسخ الحج - إن شاء الله تعالى - فلو كان إحرامه ذلك كان بحجة لكان هديه الذي ساق تطوعا فالهدي التطوع لا يمنع من الإحلال الذي يحله الرجل إذا لم يكن معه هدي ولكان حكمه - عليه السلام - وإن كان قد ساق هديا - كحكم من لم يسق هديا ؛ لأنه لم يخرج على أن يتمتع فيكون ذلك الهدي للمتعة فيمنعه من الإحلال الذي كان يحله لو لم يسق هديا ، ألا ترى أن رجلا لو خرج يريد التمتع فأحرم بعمرة أنه إذا طاف وسعى وحلق حل منها ولو كان ساق هديا لمتعته لم يحل حتى يوم النحر ولو كان ساق هديا تطوعا حل قبل يوم النحر بعد فراغه من العمرة فثبت بذلك أن هدي النبي - عليه السلام - لما كان قد منعه من الإحلال وأوجب ثبوته على الإحرام إلى يوم النحر أن حكمه غير حكم هدي التطوع ، فانتفى بذلك قول من قال : إنه كان مفردا وقد ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب عن حفصة ، - رضي الله عنها - أنها قالت لرسول الله - عليه السلام - : ما شأن الناس ، حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني قد قلدت هديي ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أنحر فدل ذلك على ما ذكرنا ، وعلى أن ذلك الهدي كان هديا بسبب عمرة يراد بها قران أو متعة فنظرنا في ذلك فإذا حفصة قد دل حديثها هذا على أن ذلك القول من رسول الله - عليه السلام - كان بمكة لأنه كان منه بعد ما حل الناس وقد يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - قد طاف قبل ذلك أو لم يطف فإن كان قد طاف قبل ذلك ثم أحرم بالحجة من بعد فإنما كان متمتعا ولم يكن قارنا ؛ لأنه إنما أحرم بالحجة بعد فراغه من طواف العمرة وإن لم يكن طاف قبل ذلك حتى أحرم بالحجة فقد كان قارنا ؛ لأنه إنما أحرم بالحجة بعد فراغه من طواف العمرة وإن لم يكن طاف قبل ذلك حتى أحرم بالحجة فقد كان قارنا ؛ لأنه قد لزمته الحجة قبل طوافه للعمرة ، فلما احتمل ذلك ما ذكرنا كان أولى الأشياء بنا أن نحمل هذه الآثار على ما فيه اتفاقها لا على ما فيه تضادها ، وكان علي بن أبي طالب 5 وابن عباس 5 وعمران بن حصين ، وعائشة - رضي الله عنهم - قد روينا عنهم أن رسول الله - عليه السلام - تمتع ، وروينا عنهم أنه قرن وقد ثبت من قوله ما يدل على أنه قدم مكة ، ولم يكن أحرم بالحج قبل ذلك ، فإن جعلنا إحرامه بالحجة قبل الطواف للعمرة ثبت [ ص: 242 ] الحديثان جميعا ، فكان رسول الله - عليه السلام - قد كان متمتعا إلى أن أحرم بالحجة فصار قارنا ، وإن جعلنا إحرامه بالحجة كان بعد طوافه للعمرة جعلناه متمتعا ونفينا أن يكون قارنا فجعلناه متمتعا في حال ، قارنا في حال فثبت بذلك أن طوافه للعمرة كان بعد إحرامه بالحجة وثبت بذلك أن رسول الله - عليه السلام - كان في حجة الوداع قارنا .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي فقد اختلف العلماء والفقهاء من أصحاب المذاهب عن النبي - عليه السلام - في صفة إحرامه في حجة الوداع ما كان مفردا أو متمتعا أو قارنا ؟ فذكروا في ذلك ما روي في هذا الباب من الأحاديث وتنازعوا في ذلك ولا شك أنه كان على واحد من هذه الثلاثة ، فالطريقة في معرفة ذلك النظر إلى معاني هذه الآثار والكشف التام حتى نعلم من أين جاء هذا الاختلاف ، ثم يوقف على إحرامه - عليه السلام - بأيهما كان ، فالذين قالوا : إنه كان مفردا يدعون أن إحرامه بالحج كان مفردا لم يكن منه إحرام آخر قبل ذلك والذين قالوا : إنه كان قارنا أو متمتعا يدعون أنه كان قد أحرم بعمرة قبل إحرامه بالحج ومنشأ الاختلاف من وقت وجود إحرامه - عليه السلام - وقد كان جابر أخبر في حديثه أنه أحرم حين استوت به ناقته على البيداء وابن عمر أخبر أنه أحرم من عند المسجد ، والحال أن كلا منهما ممن روى أنه أفرد ، وجاء عن ابن عمر أنه أحرم في دبر الصلاة في المسجد ، فالذين قالوا : إنه قرن يحتمل أن يكونوا سمعوا تلبية النبي - عليه السلام - بالعمرة في المسجد ثم سمعوا بعده تلبيته بالحج خارج المسجد فحكموا بذلك أنه قرن والذين قالوا : إنه أفرد يحتمل أن يكونوا سمعوا تلبيته بالحج وحدها ولم يسمعوا تلبيته بالعمرة قبل ذلك فحكموا به أنه أفرد والذين قالوا : إنه تمتع يحتمل أن يكونوا سمعوا تلبيته بالعمرة في المسجد فقط ولم يسمعوا تلبيته بالحج بعد ذلك ، ثم زاد النبي - عليه السلام - بعد ذلك فعل ما يفعله الحاج الفرد من الوقوف بعرفة ومزدلفة ونحو ذلك وكان ذلك عندهم بعد أن علموا خروجه - عليه السلام - من العمرة فحكموا بذلك أن تمتع فهذا هو أصل الاختلاف ومنشأه ثم حكم من حكم بالقران أولى والأخذ به أحق وأفضل ؛ لأن ما حكم به الفريقان الآخران داخل فيما حكم به من حكم بالقران ؛ لأنهم أخبروا عن تلبيته بالعمرة ثم عن تلبيته بالحجة عقبها وهذا [ ص: 243 ] هو عين القران ، ثم شد ذلك وقواه ما وجد من أفعاله - عليه السلام - بعد ذلك الدالة على أنه قد كان قارنا ، وذلك لأنه لم يختلف أحد أنه لما دخل مكة أمر أصحابه بالإحلال إلا من كان سائق الهدي وثبت هو - عليه السلام - على إحرامه ولم يحل إلا يوم النحر ، فلو كان إحرامه هذا بحجة فقط لكان هديه الذي ساقه تطوعا والهدي التطوع لا يمنع من الإحلال فلما لم يمنعه وأوجب استمراره على إحرامه إلى يوم النحر ، علمنا أنه لم يكن مفردا ، فانتفى بذلك قول من ادعى أنه كان مفردا وبقي الكلام بين كونه متمتعا أو قارنا فإن كان إحرامه بالحجة بعد طوافه للعمرة كان بذلك متمتعا وإن كان قبل ذلك كان قارنا فصار متمتعا في حال وقارنا في حال ولكن حديث حفصة - رضي الله عنها - قد دل على أن طوافه للعمرة كان بعد إحرامه بالحجة فتعين بذلك أن يكون قارنا في حجة الوداع . والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية