الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3511 ص: فقد اتفقت هذه الآثار كلها عن النبي - عليه السلام - في تحريم السفر ثلاثة أيام على المرأة بغير ذي محرم ، . واختلف فيما دون الثلاث ، فنظرنا في ذلك ، فوجدنا النهي عن السفر بلا محرم مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا ثابتا بهذه الآثار كلها ، وكان توقيته ثلاثة أيام في ذلك إباحة السفر دون الثلاث لها بغير محرم ، ، ولولا ذلك لما كان لذكره الثلاث معنى ، ولنهى نهيا مطلقا ولم يتكلم بكلام يكون فضلا ، ولكنه ذكر الثلاث ليعلم أن ما دونها بخلافها ، وهكذا الحكيم يتكلم من الكلام بما يدل على غيره ليغنيه عن ذكر ما يدل كلامه ذلك عليه ، ولا يتكلم بالكلام الذي لا يدل على غيره وهو يقدر أن يتكلم بكلام يدل على غيره ، وهذا تفضيل من الله - عز وجل - لنبيه - عليه السلام - بذلك ، إذ آتاه جوامع الكلم الذي ليس في طبع غيره القوة عليه ، ثم رجعنا إلى ما كنا فيه ، فلما [ ص: 22 ] ذكر الثلاث ، وثبت بذكره إياها إباحة ما هو دونها ، ثم ما روي عنه في منعها من السفر دون الثلاث من اليوم واليومين والبريد ، فكل واحد من تلك الآثار ومن الأثر المروي في الثلاث متى كان بعد الذي خالفه نسخه ، إن كان النهي عن سفر اليوم بلا محرم بعد النهي عن سفر الثلاث بلا محرم ، ، فهو ناسخ ، وإن كان خبر الثلاث هو المتأخر عنه فهو ناسخ ، فقد ثبت أن أحد المعاني التي دون الثلاث ناسخة للثلاث أو الثلاث ناسخة لها ، فلم يخل خبر الثلاث من أحد وجهين : إما أن يكون هو المتقدم ، أو أن يكون هو المتأخر ، فإن كان هو المتقدم فقد أباح السفر بأقل من ثلاث بلا محرم ، ، ثم جاء بعده النهي عن سفر ما هو دون الثلاث بغير محرم ، ، فحرم ما حرم الحديث الأول ، وزاد عليه حرمة أخرى وهي ما بينه وبين الثلاث ، فوجب استعمال الثلاث على ما أوجبه الأثر المذكور فيه وإن كان هو المتأخر وغيره المتقدم فهو ناسخ لما تقدمه والذي تقدمه غير واجب العمل به ، فحديث الثلاث واجب استعماله على الأحوال كلها ، وما خالفه فقد يجب استعماله إن كان هو المتأخر ، ولا يجب إن كان هو المتقدم ، فالذي قد وجب علينا استعماله والأخذ به في كلا الوجهين أولى مما قد يجب استعماله في حال وتركه في حال ، وفي ثبوت ما ذكرنا دليل على أن المرأة ليس لها أن تحج إذا كان بينها وبين الحج مسيرة ثلاثة أيام إلا مع محرم ، ، فإذا عدمت المحرم ، وكان بينها وبين مكة المسافة التي ذكرنا فهي غير واجدة للسبيل الذي يجب عليها الحج بوجوده .

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا الكلام إلى بيان وجوب العمل بالأحاديث التي فيها تعيين مدة الثلاث ، والتوفيق بينها وبين الآثار التي فيها التعيين بيوم ويومين ، بيانه ملخصا : أن هذه الآثار كلها متفقة على حرمة السفر عليها بغير ذي محرم مسافة ثلاثة أيام ، والاختلاف فيما دونها ، والنهي عن السفر مسافة ثلاثة أيام فما فوقها ثابت بهذه الآثار كلها ، ثم في تقييده بالثلاث إباحة لما دونها ، إذ لو لم يكن كذلك لما كان لتعيين الثلاث فائدة ، ولكان نهي مطلقا ، وكلام الحكيم مصون عما لا فائدة فيه وعن الحشو ، ولا سيما رسول الله - عليه السلام - الذي أوتي جوامع [ ص: 23 ] الكلم ، وهو الموجز من القول ، وهو ما قلت ألفاظه واتسقت معانيه ، وقد يقال : هو القرآن لإيجازه وإعجازه .

                                                ثم إذا ثبت بذكر الثلاث وتعيينه إباحة ما دونه نحتاج إلى التوفيق بينه وبين ما روي من اليوم واليومين والبريد ، وهو أن نقول : لا يخلو إما أن يكون خبر الثلاث متقدما على هذه الآثار فيكون منسوخا ، أو متأخرا عنها فيكون ناسخا لها ، ففي فرضنا له متقدما يكون مبيحا للسفر بأقل من ثلاث بلا محرم ، ثم النهي الذي جاء بعده عن سفر ما دون الثلاث يكون محرما ما حرم هذا ، وهذا يكون زائدا عليه بحرمة أخرى وهي ما بينه وبين الثلاث ، فإذا كان كذلك يجب استعمال الثلاث على مقتضى رواية الثلاث .

                                                وفي فرضنا له متأخرا يكون ناسخا لما تقدمه ويبطل العمل بما تقدمه ، وأما حديث الثلاث يكون واجب الاستعمال في الحالين كما ذكرنا ، والعمل بما كان واجب الاستعمال في الحالين أولى من الذي يجب استعماله في حال ويجب تركه في حال ؛ فافتح بصيرتك فيه فإنه موضع دقيق ، هذا ما ذكره الطحاوي .

                                                وقال القاضي : وقوله في الرواية الواحدة عن أبي سعيد : "ثلاث ليال" وفي الأخرى : "يومين" وفي الأخرى : "أكثر من ثلاث" وفي حديث ابن عمر : "ثلاث" وفي حديث أبي هريرة : "مسيرة ليلة" وفي الأخرى عنه : "يوم وليلة" وفي الأخرى عنه : "ثلاث" وهذا كله ليس يتنافر ولا يختلف ، فيكون - عليه السلام - منع من ثلاث ومن يومين (ومن يوم أو يوم وليلة) وهو أقلها ، وقد يكون قوله - عليه السلام - هذا في مواطن مختلفة ونوازل متفرقة فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهده ، وإن حدث بها واحد فحدث مرات بها على اختلاف ما سمعها .

                                                وقد يمكن أن يلفق بينها بأن اليوم المذكور مفردا والليلة المذكورة مفردة بمعنى اليوم والليلة المجموعين ؛ لأن اليوم من الليل والليل من اليوم ، ويكون ذكره يومين [ ص: 24 ] مدة مضيها في هذا السفر في السير والرجوع ، فأشار مرة بمسافة السفر ، ومرة بمدة المغيب ، وهكذا ذكر الثلاث فقد يكون اليوم الوسط بين السير والرجوع الذي تقضي حاجتها بحيث سافرت له فتتفق على هذا الأحاديث .

                                                وقد يكون هذا كله تمثيلا لأقل الأعداد للواحد ، إذ الواحد أول العدد وأقله ، والاثنان أول التكثير وأقله ، والثلاث أول الجمع ، فكأنه أشار أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير ذي محرم ، فكيف بما زاد ، ولهذا قال في الحديث الآخر : "ثلاثة أيام فصاعدا" وبحسب اختلاف هذه الروايات اختلف الفقهاء في تقصير المسافر وأقل السفر . انتهى .

                                                ولقائل أن يقول : لعل الثلاث كن أولا ، ثم رأى النبي - عليه السلام - المصلحة في أقل من ذلك حسما للمادة ، وسدا لباب الذريعة ، لئلا يتطرقن إلى السفر وحدهن .

                                                فإن قيل : في هذا الباب رواية أبي سعيد وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس كما ذكرت ، وكل رواياتهم مضطربة إلا رواية ابن عباس فإنها لم تضطرب .

                                                بيان ذلك أنه روي عن أبي سعيد : "لا تسافر ثلاثا" وروي عنه : "لا تسافر فوق ثلاث" وروي عنه : "لا تسافر يومين" .

                                                وروي عن أبي هريرة : "لا تسافر ثلاثا" وروي عنه : "لا تسافر فوق ثلاث" وروي عنه : "لا تسافر يوما وليلة" وروي عنه : "لا تسافر يوما" وروي عنه : "لا تسافر بريدا" .

                                                وروي عن ابن عمر : "لا تسافر ثلاثا" وروي عنه : "لا تسافر فوق ثلاث" .

                                                فكان الأخذ برواية من روي عنه سالما من الاضطراب أولى من رواية من اضطربت الرواية عنه ، فحينئذ الأخذ برواية ابن عباس أولى كما ذهب إليه النخعي والشعبي وطاوس والحسن وأهل الظاهر في منعها جملة إلا بزوج أو محرم .

                                                قلت : رواية غير ابن عباس زادت على رواية ابن عباس ، فالأخذ بالزائد أولى ، ولكن الزائد في نفسه يختلف ؛ فرجح خبر الثلاث لما ذكره الطحاوي أنه واجب [ ص: 25 ] الاستعمال في الأحوال كلها ، وغيره قد يجب استعماله إن كان هو المتأخر ولا يجب إن كان هو المتقدم ، فالذي هو واجب الاستعمال في الأحوال كلها أولى بالعمل مما قد يجب استعماله في حالة دون أخرى ، والله أعلم .

                                                قوله : "وفي ثبوت ما ذكرنا . . . " إلى آخره حاصله أن المرأة ليس لها أن تحج إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام إلا مع زوج أو محرم ؛ لما ثبت من الدليل الذي ذكرناه .

                                                فإن قيل : إنكم تقولون في امرأة لا تجد معاشا أصلا إلا على ثلاث فصاعدا أنها تخرج بلا زوج ولا محرم ، وكذلك من خشيت على نفسها غلبة الكفار أو المحاربين أو الفساق ولم تجد أمنا إلا على ثلاث فصاعدا ، أنها تخرج من غير زوج ومن غير محرم ، وطاعة الله واجبة في الحج عليها كوجوب خلاص روحها ، فكيف لا تجوزون خروجها ها هنا من غير زوج أو محرم ؟

                                                قلت : جواز ذلك هناك لإحياء نفسها وتحصينها ، وليس هذا المعنى بموجود ها هنا ، ولأن الله تعالى شرط الاستطاعة في الحج ؟ والزوج والمحرم من استطاعة السبيل ؛ ولهذا قال أحمد : المحرم من السبيل . وذلك حين سأله أبو داود عن امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج . قال : لا ، المحرم من السبيل .

                                                وقال ابن قدامة : وعنه أن المحرم ليس من شرائط لزوم السعي دون الوجوب .

                                                وعنه رواية أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب قال ابن قدامة : والمذهب الأول .

                                                وروى أبو الحسن البغدادي : عن ابن عمر - بسند فيه محمد بن أبي يعقوب الكرماني وهو مجهول - قال رسول الله - عليه السلام - في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج قال : "ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها" .




                                                الخدمات العلمية